زوجي علي الحواص المُطلق البحر من مدينة الميادين، وأنا من مواليد بلدة أبو حمام (العام 1974). تزوجنا وعشنا براحة، وأنجبت أربعة صبيان وأربع فتيات. بعد أن ولدت ابنتي الثانية طلبت الاستقلال عن منزل أهله والعيش في مسكن منفصل.
كان علي موظفاً في مؤسسة الإرشادية الزراعية، لكنه بنى لنا غرفتين لنسكنهما. سارت حياتنا بشكلٍ جيّد حتى جاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، اختلفت الآراء والأخبار حوله، ونحن كنا منشغلين بحياتنا ولا نهتم بمن يحكمنا. سيطر التنظيم على آبار النفط وبدأ بتعيين موظّفين لحراستها، وسرعان ما بدأت دورياته التابعة لـ “ديوان الحسبة” تجول الشوارع وتعتقل النساء اللواتي يُظهرن وجههن. تدخلوا في كل صغيرة وكبيرة.
لم يرضَ الناس بهذا الأمر فهبّوا في وجههم، وكردّ فعل على ذلك اعتقل عناصر التنظيم في البادية كل من وظّفوا على حقل النفط سابقاً من أبناء العشيرة، ولم نكن في حينه نعرف مصير المعتقلين. بعد ذلك حاصروا بلدات الشعيطات 12 يوماً من كل الجهات وحشدوا قواتهم من كل مكان.
مع اشتداد الحصار وانقطاع الماء والكهرباء لزمنا منازلنا لأنّ الرصاص كان كثيفاً فوق رؤوسنا، ما دفع الناس إلى الخروج من بلداتنا. كنا تقريباً من أواخر المغادرين، وقبلنا خرج من يمتلك سيارة نقل فيها متاعه وماشيته. أذكر أن أخاً لزوجي جاء إليه وقال له: “لم يبقَ غيرك هنا، يجب أن تخرج معنا”. جلب لنا سيارة وخرجنا فيها بقليل من متاعنا.
بعد وصولنا إلى بلدة البْحَرة مكثنا في خيمة. اختلط ليلنا بنهارنا، فدوريات عناصر التنظيم لم تترك لنا مجالاً للراحة، وكان الرجال والشبان يختبئون في الحقول والبراري هرباً منهم. ذات يوم لاحقتْ دورية شخصاً يقود دراجة نارية وأطلقت النار عليه في شارعٍ عام فسقط عن الدرّاجة. وصلتْ الدورية إلى المنزل الذي كنا قد نصبنا خيامنا في محيطه وبدأت تستجوب صاحب العقار، إن كان يُخبىء لديه أفراداً من عشيرة الشعيطات. في ذلك الوقت أجاب الرجلُ أنه لا يأوي غير النساء والأطفال.
بالرغم من خطورة الأوضاع، ظل زوجي مُصرّاً على ركوب دراجته النارية والتوجه إلى أقاربه في المنطقة للاطمئنان عليهم. لم يصغ لتوسّلاتنا، كنا نقول له إننا، نحن النساء، سنذهب بدلاً منه لقضاء الأمور الضرورية. لكنه كان يجيب بأن التنظيم لن يمسه بسوء كونه لم ينخرط في حرب ولا علاقة له بالصراع على النفط، هذا إلى جانب معاناته من إعاقة في يده وقدمه نتيجة إصابته بشلل نصفي سابقاً.
ذات يوم توجه علي إلى مدينة الهجين لاستلام حوالة مالية أرسلها إخوته من الخليج بناءً على طلبٍ من أمه. طلبنا منه أن يعطينا هويته الشخصية لنستلم الحوالة بالنيابة عنه، لكنه لم يستمع إلينا وأصّر على الذهاب. في ذلك الصباح تركته نائماً وذهبت لتحضير الخبز على التنور، وعندما عدت لم أجده، وأخبروني أنّه ذهب. كانت تلك المرة الأخيرة التي نراه فيها. انتصف النهار ولم يعُد، ما أثار قلقنا إذ لا يحتاج الطريق إلى الهجين أكثر من ساعة أو ساعتين ذهاباً وإياباً.
انتظرنا ثلاثة أيام حتى تاريخ 22 آب/أغسطس 2014 فخرجت للبحث عن عليّ، ولم أكن أتوقع في ذلك الوقت أن يكون معتقلاً. ذهبت مع إحدى قريباتي إلى الهجين، وكلما التقيت أحداً من أقاربه كان يخبرني أنّه شاهد زوجي في ذلك اليوم، ولم يره أو يسمع عنه أي خبر بعدها.
بعد نحو أربعة أيام من اختفائه، سمعت أن امرأة خبّأت مجموعة من الدراجات النارية في منزلها، تعود لرجال اعتقلوا على أحد الحواجز، ذهبت إلى هناك ومن بعيد ميّزت دراجة عليّ. وصفت صاحبة المنزل لحظات اعتقاله وقالت إن دورية التنظيم اختبأت في زاوية غير ظاهرة، ونصبت كميناً للعابرين. وممّا أخبرتني أنه بسبب إعاقته، لم يستطع الصعود إلى سيارة التنظيم فحمله عنصران، ورمياه فيها.
أصبحت مسؤولة عن أسرتي، وبدأت العمل في الخياطة أو النسيج لتأمين الطعام لهم. لاحقاً بدأت عائلة زوجي بالضغط عليّ للتوجه إلى الميادين حيث يقطن أهلي. رفضت ذلك في بادئ الأمر، وكنت أنتظر أي معلومة عن عليّ. سمعنا أخباراً تقول إنه لن يعود، وأخرى تفيد بمقتله، ونصحني آخرون بالذهاب إلى الميادين حيث يمكن أن نجده في أحد السجون.
توجّهت إلى الميادين، ومكثت عند أهلي مع أولادي قرابة الشهرين. في تلك الفترة تنقّلت من سجنٍ إلى آخر كي أسأل عن زوجي، ولم أحصل على جواب. أخيراً قال لي أحد معارفي: “يا أختي توقفي عن بذل الجهود من دون طائل، كل من اعتقل في تلك الفترة قُتِل”. بعد ذلك عاد أهل زوجي ليطلبوا مني الالتحاق بهم في قرية السوسة، حيث سكنوا بيتاً قيد البناء يخلو من وسائل التدفئة والكهرباء وليس فيه سوى الجدران والسقف. تدبرنا أُمورنا وحاولنا إغلاق الشبابيك.
لاحقاً، سمعنا عن المفاوضات لترتيب رجوعنا إلى بلداتنا. اشترط التنظيم استلام بندقية لقاء كل عائلة تريد العودة. بدأ المقتدرون مالياً بالتبرع لمساعدة الفقراء. استطعنا أخيراً تأمين ثمنها، وحين عدنا وجدنا بيتنا قد تعرض للسرقة، لكن بقي على حاله عموماً كونه منزلاً متواضعاً.
بالتزامن مع العودة، سمعنا أن هناك مفاجأة تنتظر أهالي عشيرة الشعيطات، فظنَنّا أن ذلك يعني خروج المعتقلين في سجون التنظيم. لكن الأخبار بدأت تصلنا عن اكتشاف جثامين لأشخاص قتلوا في البادية. ذهبتُ إلى حماتي وطلبت منها أن تذهب بدلاً مني. بحثتْ عنه بين جثامين الضحايا هي وأحد أخوته ثلاث ليالٍ. في ذلك الوقت كانت الجثث قد تحللت أساساً وصار التعرف على هوية الضحايا عن طريق ثيابهم ووثائقهم الرسمية.
تلقيتُ اتصالاً من أم زوجي طلبتْ فيه أن أصف لها ثيابه ففعلتْ. أكدت لي مقتله وأخبرتني بأنهم وجدوا ثياباً كالتي وصفتها وأنهم لم يسمحوا لها بالاقتراب من الجثمان. دفنوه صباح اليوم التالي سراً لأن التنظيم لم يسمح بذلك في اليوم الأول. أعرف أن زوجي اعتقل بتاريخ 20 آب/أغسطس 2014 لكن تاريخ استشهاده يبقى علمه عند الله.
قبل موته كان علي يحلُم أن يُكمل توسعة بيتنا، وقبل نزوحنا، كان قد بدأ بالفعل وضع الأساساتٍ لغرفةٍ إضافية. ترك المنزل وكان يقول إنه سوف يستأنف بناءه فور عودتنا، لكننا رجعنا وظلت الأساسات التي تركها على حالها. لم نستطع أن نقيم له عزاءً أو نقرأ الفاتحة على روحه، حتى أنني حينما سمعت خبر موته أردت أن أصرخ، فكتموا صراخي.