كان زوجي، خلف الناصر الزعلان (مواليد العام 1982)، يعمل في معمل للبلوك حين تزوجنا، وبعد أشهر حصل على إقامة عمل في السعودية وبدأ يسافر عدة أشهر كل سنة، ثم يعود لقضاء بعض الوقت هنا، في مدينة الكشكية.
في السنوات الأولى من سفره استطاع أن يحجّ إلى بيت الله، وبعد ذلك أخذ أمّه وأبيه كي يحجّا أيضاً. بدأ تدريجياً ببناء منزل لنا كي نستقلّ فيه عن منزل عائلته، وكان في كل زيارة لنا يُنجز جزءاً من البناء، مثل السقف وتركيب الأبواب وغيرها. لكن مع اندلاع الثورة السورية قرّر ترك السعودية والاستقرار هنا. عاد للعمل في معمل لمواد البناء، وصرت أنا أبحث عن عملٍ إضافي كخيّاطة.
حين بدأنا نسمع بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قالوا إنه جيّد، لكن ذلك تغيّر عندما أخبرتنا امرأة من بلدة الجردي (عشيرة البو رحمة)، كانت انتقلت للسكن في جوارنا، أنّ داعش أعدم زوجها الذي كان يملك بسطةً يبيع منها.
تزايدت ضغوط التنظيم علينا مع مجيء رمضان العام 2014. في بداية ذلك الشهر بنى عناصره خياماً، وأعطوا الناس طعاماً، مقدّمين صورةً حسنةً عن أنفسهم، لكن ومع اقتراب نهاية الشهر بدأوا باعتقال وإعدام الناس، وازداد ضيقنا منهم.
في تلك الفترة داهم العناصر منزل أعمامي، وكان زوجي في زيارة إليهم، فاعتقلوا جميعاً، ولم نعرف عنه أي شيء بعد ذلك. سرعان ما بدأت الصدامات بين أهالي الشعيطات والتنظيم، ووقعت حادثة هجوم رجال العشيرة على مبنى بلدية الكشكية، مقرّ التنظيم، وما نتج عنها من طرد لعناصره. جراء ذلك اعتُقل الموظفون الذي كان التنظيم قد شغّلهم في آبار النفط، ومن ثم حشد قواته وعاد لاقتحام المدينة. حاصرونا من الجهات الأربع وتعالت أصوات الرصاص من حولنا، فلم نعد نستطيع الخروج من منازلنا.
أثناء حصارهم لنا، وبعد اعتقالهم زوجي، عانيت من ظروف نفسية صعبة وفقدت شهيتي للطعام، كنت أنتظر عودته فقط. أخبروني أثناء حصار التنظيم لنا أن هناك من يحاول أن يُزكّي زوجي للخروج من المعتقل سالماً، لكنه لم يخرج مع مجموعات الموقوفين الذين أُطلِق سراحهم.
مع تدهور الأوضاع بدأت أبحث عن سيارة تقلّني وأولادي خارج الكشكية. أخيراً نقلنا أخو زوجي على دراجة نارية، لم تتسع لطعامنا وثيابنا التي كُنت قد جهزتها. في بلدة البْحَرة استمرت مداهمات التنظيم لنا واضطر إخوة زوجي إلى الهرب في كل مرة حصل فيها ذلك، وإلى المَبيتِ في البراري أو خارج المنازل. في ذلك الوقت، تشاركت عائلتي غرفة واحدة مع أربع عائلات أخرى، في ظروف معيشية سيئة، أما أنا فكنت شبه غائبةً عما يحصل حولي، أفكر في زوجي وأنتظر عودته.
بعد مرور عشرة أيام أو أكثر على نزوحنا جاءنا رجل وأخبرني أن خَلف سيخرج من سجنٍ في مدينة الميادين. لكننا فوجئنا بعد فترة بلقطات مصورة يظهر فيها أشبه بهيكل عظمي، إثر التعذيب والضرب الذي تعرّض له.
نتيجة كثافة المداهمات توجهنا إلى بلدة السوسة، لكن خوف الرجال من دوريات التنظيم لم ينته هناك، وكنّا جميعاً نخاف حتى الذهاب إلى طبيب أو صيدلية. فابنتي مثلاً عانت من حساسية تنفسية لكنني لم أستطع أخذها إلى الطبيب. أخيراً لجأت إلى إحدى جاراتي في بلدة السوسة لِتصطحبني إلى البوكمال لعلاج الطفلة التي احتاجت في ذلك الوقت جهازاً لضخ الأوكسجين.
وفي فترة عيد الأضحى تقريباً سمعنا أن داعش قد قتل رجالاً كان قد اعتقلهم، وزوجي من بينهم، لكننا لم نرد تصديق ذلك من دون أدلة. كان لا بد لي من التوجه نحو الميادين للسؤال عنه، فاصطحبت زوجة عمي المعقتل أيضاً.
كلما حاولنا الذهاب إلى هناك كان رجال التنظيم يجبرونا على الرجوع قائلين: “يجب أن تجلبي معك محرماً”، لكن كيف سأجلب محرماً وأنتم قد اعتقلتم الجميع؟ جربنا طريقاً آخر للوصول إلى الميادين وطلبنا من سائق الباص أن يكون بمثابة محرم لنا، لكن ذلك لم ينفع أيضاً. أخيراً استطعنا العبور ووصلنا إلى السجن للسؤال عن زوجي لكن عناصر التنظيم لم يذيعوا اسمه وطلبوا منا العودة في يومٍ آخر.
طوال شهرٍ كامل داومنا على السؤال عنه في الميادين، من دون جدوى، ومن هناك اتجهنا للبحث في سجن في حقل العمر في البادية، لكّن فوجئنا بسيارة مليئة بعناصر التنظيم تعترض طريقنا. كانت هيئاتهم مرعبة يحملون سواطير وأسلحة، سألونا عن سبب تواجدنا، ولم يقتنعوا أننا قدمنا نبحث عن مفقودين من أقاربنا. اتهمنا أحدهم بالتجسس لصالح الأمريكيّين، وكان يريد اعتقالنا حتى أقنعه عُنصرٌ آخر بتركنا نذهب.
بعد فترة، بدأت المفاوضات لترتيب رجوعنا إلى بلدات الشعيطات وساعدنا بعض الأشخاص في تأمين البندقية ومخازن الرصاص التي اشترط التنظيم استلامها لقاء عودتنا. في الكشكية جاء شخص إلى أخ زوجي وأخبره بأن خلف قد قُتل. لكننا وعلى اعتبار أننا لم نجد جثّته لم نفقد الأمل، وكلما سمعنا عن اكتشاف سجنٍ سريّ جديد كنا نرسل اسمه وصورته للسؤال عنه.
أخيراً ظهرت إصدارات مرئية جديدة للتنظيم، بيّنت أن زوجي قد قُتل مع شخصٍ آخر يُدعى غدير العبيّد على جسر الجردي. لا أعرف تاريخاً دقيقاً لقتله لكنه اعتقل في 25 تموز/يوليو العام 2014، قبل المعركة الكبيرة (الهجوم على مبنى البلدية في الكشكية). لم نعثر على جثمانه حتى الآن، لكننا فقدنا الأمل في نجاته بعد مشاهدة الإصدار.
كان خلف يحلم بشراء سيارة يعمل عليها، ويؤمن مصاريف عائلته، أمضى وقته طوال رمضان في الجامع يقرأ القرآن. لقد كان رجلاً متديِّناً وحجّ إلى مكة. لم يُغضب أحداً ولم ينخرط في القتال إلى جانب أحد.