ولدتُ في منطقة بابا عَمرو في حمص، وحين كان عبيد يقضي خدمته العسكرية هناك، تعرفت عليه، وتزوجنا في العام 2005. عشنا في مدينة الكشكيّة بريف دير الزور، وأنجبت في سنوات زواجي الأولى ابنتين قبل أن يسافر إلى السعودية.
تحسّن وضعنا بصورة كبيرة وازداد عدد أطفالي ليصبح ثلاثة بنات وولد. في تلك السنوات استطعت أن أزوره في السعودية وحججت إلى بيت الله، كنت أشعر أنني أعيش في الجنّة. لكنني لم أبق هناك وعدت إلى سوريا من أجل بناتي. كان يأتي إلينا في رمضان كي يصوم الشهر معنا ويعود إلى السعودية، ولاحقاً قرّر الرجوع والاستقرار هنا، وبدأ العمل في مجال البناء. استمر على هذا الحال عامين حتى مجيء تنظيم الدولة.
مرَّت علينا فصائلَ وأحزاب كثيرة، لكنّنا لم ننخرط في أيٍّ منها. أما عناصر داعش فقدّموا في البداية صورة إيجابيّة عن أنفسهم، عبر سعيهم إلى إقامة دورات تحفيظ القرآن للشباب في الجوامع، واهتمامهم باللباس الشرعي الكامل للمرأة. سمعنا بهم طوال شهرين أو ثلاثة لكنهم لم يأتوا إلينا إلا قبل رمضان العام 2014 بحوالى الشهر، وعندها بدأت مضايقات عناصره للناس، وتقييدهم لحركتنا. حاصروا القرية وبات الناس غير قادرين على العمل، حتى إننا شربنا مياه الآبار المالحة، ما سبب أمراضاً للأطفال.
قاد ذلك الشبان والرجال إلى محاولة طرد التنظيم من القرية، وخصوصاً مع تزايد حملات الاعتقال والقتل. اعتقلوا حتى الأبرياء ممن جاؤوا من السفر لقضاء شهر رمضان مع عائلاتهم. وبعد عيد الفطر بثلاثة أيام اقتحموا القرية واعتقلوا نحو 50 رجلاً من أسرّة نومهم. كل تلك الأحداث حصلت على مرأى منّا. عاد التنظيم لاقتحام المدينة واستمرت المعارك 12 يوماً . كان الرصاص فيها فوق رؤوسنا مثل زخّات المطر.
بعد تلك الأيام بدأ الناس يفرّون من الكشكيّة، مع فرض التنظيم لمهلة وتعهده بسلامة من يخرج في خلالها من المدينة. خرجنا مع بعض أقربائنا وجيراننا راكبين سيارة يستخدمها زوجي في عمله. ظنَنّا أن المدة لن تطول أكثر من ثلاثة أيام.
من الكشكيّة توجّهنا نحو بلدة البْحَرة، حيث قضينا ثلاثة أيام في العراء مستظلين أشجاراً لم تحمِنا من حرارة الصيف. كَثُرت حالات المرض والإغماء نتيجة العطش ونقص الغذاء والحرّ، لكن الوضع ازداد سوءاً مع بدء مداهمات التنظيم لنا. داعش بعيد كل البعد عن الإسلام الحقيقي، لو أنهم متديّنون حقاً لما سمحوا للناس أن تبيت في العراء وتحت الشجر!
نتيجة سوء الظروف في البْحَرة قررنا التسلل ليلاً نحو البوكمال، وذهبنا إلى هناك على دفعات. وصلت المجموعة الأولى بسلام، وكنّا نحن ضمن الثانية، لكننا فوجئنا بحاجز للتنظيم في بلدة الشعفة شارع الـ 24. أمرنا بإيقاف السيارات التي كانت تُقلنا وأجبر الرجال على الوقوف مكبلين بجانب أحد الجدران بعد أن صوّبت البنادق إليهم، فيما أدخلت النساء إلى مدرسة.
بلغ عدد الرجال ما يُقارب الثمانين. في ذلك الوقت لاحظ العناصر آثار جراح على ظهر أحد الشبّان، واكتشفوا من خلالها أنه كان مقاتلاً، لذا أعدموه مباشرةً، ثم أعدموا شخصين آخرين لنفس السبب. في تمام الساعة السادسة صباحاً جاءت سيارات ونقلت الرجال إلى مكانٍ آخر، ومن بينهم زوجي وابنه (من زوجته الأخرى). أما نحن فاحتجزونا في المدرسة كما لو أننا ماشية، وكانوا يأتون إلينا حاملين سكاكين لإخافتنا قائلين إن “النساء مثل الرجال حكمهم الإعدام”.
عندما علم أهالي الشعفة باعتقال النساء في المدرسة بادر بعضهم إلى ضرب الحجارة على حارسَين لها، فردّا عليهم بإطلاق الرصاص. في ظل هذا الاضطراب خرجنا مع الأطفال من المدرسة هرباً. فآوانا أهالي البلدة حتى هدأت الأوضاع، أطعمونا واعتنوا بنا وساعدونا في دفن الشبان الذي قُتلوا أمام المدرسة. ورغم أننا لم نعرف مصير رجالنا لكننا توقعنا أنَّهم سيُعدمون.
بعد مبيتنا في الشعفة ثلاثة أيام عدنا إلى البْحَرة وتجمعنا مجدداً في مكان مزدحم، لا ماء فيه ولا حمامات ولا كهرباء. بقينا هناك 15 يوماً، لكن ظروفنا الصعبة أنا وضرّتي التي تعاني من مشكلات صحية، دفعتنا إلى الاتصال بالشخص الذي خبّأنا في الشعفة طالبات المساعدة منه. عرّض الرجل نفسه لخطر الإعدام بالمجيء وأخذنا في سيارته، بالرغم من كوننا من عشيرة الشعيطات.
في منزله خصَّص لنا غرفة ومطبخاً وحماماً في الطابق الثاني، ولم يكن يصعد إلينا أبداً. بقينا عنده ما يُقارب الستة أشهر، حتى بدأت المفاوضات لعودة أهالي الشعيطات. عاد أبناء مدينة غرانيج أولاً، لقاء تسليم بارودة ومخزن سلاح، أما نحن فتأخّرنا شهرين عن هذا الموعد. ولأننا أرملتان ووضعنا المادي تحت الصفر، تبرع لنا بعض أهل الخير بثمن البارودة.
عدنا إلى الكشكية لنجد أن منزلنا بات خربة. استأنفنا البحث عن زوجي وسرعان ما عُثر على جثمانه في إحدى المقابر الجماعية، وأمكن التعرُّف عليه من هويته الشخصية، لكن النقود في حوزته وهواتفه النقالة كانت مسروقة. لم نقم له عزاءً رسمياً بل اكتفينا باستقبال بعض المقربين في الخفاء. أما جثمان ابنه فلم نعثر عليه حتّى الآن.
طوال مدة اختفاء عبيد، منذ 8 آب/أغسطس العام 2014، ظللنا نأمل أن يكون مسجوناً لكننا وجدناه مقتولاً ومدفوناً في ساقية مياه ضمن الكشكية. كنا نتمنى أن يعود إلى السعودية ويأخذنا معه إلى هناك، كما أملنا أن يعالج زوجته الأخرى المريضة.
أنا زوجته الصغيرة، أنجبت ثلاث بنات وولد، أما زوجته الكبيرة فأنجبت خمسة ذكور وابنتين.
لاحقاً لم تتوقف مضايقات التنظيم لنا، وحاول عناصره إخراجنا من منزلنا للسيطرة عليه، لكن وساطات أهالي القرية لنا على اعتبار أننا أرامل، حالت دون ذلك.