تعرّفت على زوجي أصفوك الحماد العمر (مواليد العام 1980) في منطقة الجزيرة (شرق الفرات) ودامت خطبتنا ما يقارب العام حتى اتخذنا القرار بالزواج. في الأعوام الأولى من زواجنا تعاونْنا على تأمين متطلبات الحياة. كنت أعمل في القطاف، بينما سافر هو إلى لبنان للعمل، وفي غيابه أقمت في منزل حَمَوَي، حتى استطعنا تأمين مبلغ يسمح لنا ببناء غرفة نعيش فيها مع أولادنا.
بعد لبنان ذهب ليعمل في دمشق، وكانت حياتنا تسير بشكلٍ جيد، لكن مع اندلاع الثورة السورية، تضاعف القلق والاضطراب. ذهبت إلى أهلي وطلبت منهم أن يؤمنوا له إقامة عمل في السعودية بعدما استدنّا المال لتأمين تكاليفها.
في تلك السنوات كنت قد أنجبت ثلاثة أولاد، وكان ابني الكبير حينها طالب مدرسة في العاشرة من عمره، وعلى اعتبار أن الأوضاع هنا كانت سيئة والتعليم كذلك، أمّن له أبوه إقامة في السعودية حيث بقي هناك معه. كان الناس يقولون لنا “ابنكم ما زال صغيراً، كيف تسمحون له بالعمل أجيراً عند النجّار؟” ومع ذلك، أمضى عامين في السعودية.
في العام 2014 جاء زوجي وابننا كي يقضيا رمضان معنا، كنّا نسمع بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وكرهنا عناصره من بعيد من دون أن نعرفهم جيداً. في البداية أقاموا خياماً ونظّموا إفطاراً جماعياً مرةً أو اثنتين، لكن سلوكهم تغيّر وبدأوا باعتقال الرجال بسبب عدم تقصير الإزار (البنطال). تزايد ضيق الناس منهم وبلغ الأمر ذروتَه عندما قتلوا شخصين من على أسرّة نومهم، فثار الشبان عليهم وطردوهم من القرية واندلعت الحرب.
جلب التنظيم عتاده وحاول شبّاننا التصدي له، لكنهم فشلوا في ذلك. حاولوا قدر استطاعتهم، ولو استطعنا نحن النساء القتال معهم لفعلنا. بدأ الحصار وبتّنا غير قادرين على مغادرة منازلنا، رأينا العجب العجاب في تلك الفترة. الرصاص كان كالمطر.
بقينا محاصرين 12 يوماً حتى أعطونا مهلة ثلاثة أيام للخروج من البلدة. تضاربت آراء الناس بين من رأى أن تهديدات التنظيم حقيقة ومن رآها مجرد مبالغات. بقينا في أبو حمام حتى اليوم الأخير من انتهاء المهلة، إلى أن اقتربوا منا مسافة 200 متراً، عندها صدّقنا أننا في خطر حقيقيّ. أحضر زوجي سيارة مستأجرة انتقلنا فيها مع بعض الحاجيات والثياب، وكانت أمه معنا.
كان عميّ، والد زوجي، قد نجح في الفرار من المنطقة في وقت سابق. أما أصفوك فلم يرد الفرار مع أنه كان هنا في المنطقة فقط لقضاء شهر رمضان، فكّر في أن الهرب قد يثير شكوك التنظيم حول مشاركته في القتال.
في بلدة البْحَرة أقمنا في مدرسة، وفي اليوم الثاني لوصولنا جاء عناصر داعش واعتقلوا زوجي و14 شخصاً آخرين. في البداية، وعلى اعتبار أنه لم يقاتل ضدّ التنظيم، ظنَنّا أنه سيعود سالماً بعد التحقيق معه، فصرت أبحث عنه في الميادين والبوكمال. لاحقاً سرّت شائعة بأن التنظيم سيطلق سراح 800 شخص، فرادونا الأمل وبقينا ننتظر.
تركنا المدرسة عندما هاجمتها دورية للتنظيم، وسكنّا منزلاً مهجوراً في البْحَرة. أخرجنا البقرة من الغرفة ونظّفناها وجلسنا فيها، كانت حياتنا معاناة. طوال تلك الفترة ظللت أبحث عن زوجي ولم أترك مكاناً إلا بحثت فيه عنه.
لقد يتَّموا أربع بنات وطفلين صغيرين. كانت فتياتي صغيرات، الكبرى منهنّ لم تبلغ العاشرة من عمرها، لكنني اشتريت لهن طرداً من الدخان ووزعته عليهن كي يبعنّه لنحصل على 200 ليرة سورية، نؤمن فيها حاجتنا من الخبز (الدولار الواحد كان يعادل نحو 181.43 ليرة سورية عام 2014). لكن حتى تجارة الدخان كانت ممنوعة والتنظيم لم يسمح بها.
بعد ذلك بدأت المفاوضات لعودة أهالي عشيرة الشعيطات إلى بلداتهم، وكان أول من عاد أهالي مدينة غرانيج. ولضيق أحوالي المادية حصلت على مساعدة من أهل الخير، تبرّعوا لي بثمن بارودة وأربع مخازن من الرصاص. عدنا لنجد منزلنا فارغاً بعد أن نهبه عناصر التنظيم.
عدْتُ سريعاً أبحث عن زوجي مجدّداً، وكنّا في ذلك الوقت نكتشف مقابر جماعية جديدة، أخيراً اتصل بي بعض الجيران وأخبروني أنهم وجدوا جثة يُعتقد أنّها له. تعرّفت عليه من طاقيته البيضاء ومن زجاجة العطر في جيبه، وكان قد اعتاد أن يتعطر بها نهار الجمعة قبل الذهاب إلى الجامع. أما وجهه فكان كالحجر، كونه توفي قبل أربعة أشهر من اكتشاف المقبرة. شعرت في تلك اللحظات أنني متّ رعباً وحزناً.
أخبرت عائلة زوجي بمكانه وذهبوا فنقلوا جثمانه لكي ندفنه. لا أعرف وقتاً دقيقاً لإعدامه، لكنّه اعتقل بتاريخ 8 آب/أغسطس العام 2014، أما عزاؤه فاقتصر على المقربين من أفراد العائلة ذلك أننا لم نتجرأ على إعلان خبر موته.
بعد مدة وقع انفجار في منزل الجيران، فتخلخلت وتصدّعت أساسات منزلنا ولم يعد صالحاً للعيش. فتبرعت لي عائلتي بكلفة بناء غرفة جديدة أسكن فيها مع أطفالي. قبل موته كان قد وعدني بالحجّ. لطالما عاملني بصورة جيدة.