ماهر ابني الذكر الوحيد وهو من مواليد العام 2000، أنجبت قبله بنتَيْن وبعده ستّاً. كنا نذهب لقطاف القطن في الجزيرة (شرق نهر الفرات) فيما كان زوجي يعمل في السعودية. لطالما حاول ماهر إقناع أبيه بأخذه إلى السعودية للعمل هناك لكن زوجي كان يقول إنه ما زال صغيراً.
لاحقاً سافر ماهر وبدأ يعمل في ورشة حدادة، وسرعان ما وصل أجره اليومي إلى 50 ريالاً سعودياً، حتى إنه أصّر على اصطحابي إلى الحجّّ. بقيتُ في السعودية ثلاثة أشهر لكنني أردت بعد ذلك العودة.
في العام التالي قرر ماهر وأبوه زيارة بلدتنا، أبو حمام، وكان حينها في الرابعة عشر من عمره. في زيارته إلينا بدأ يجرّب دراجة خاله النارية ويقودها في أرجاء البلدة حيث رأى فتاة أعجبته وأراد خطبتها، وأنا انشغلت معه في التحضير للخطبة.
مع انتصاف شهر رمضان من ذلك العام، أراد ماهر وأبوه الرجوع إلى السعودية لكنني استبقيتهما ليقضيا عيد الفطر معنا. كنتُ مقتنعةً أن عناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لن يقتربوا منا أو يسببوا لنا الأذى إلا إذا آذيناهم. لكن سرعان ما اعتقلوا بضعة شبان من عائلتي لأنهم كانوا يدخِّنون، وقتلوا البعض منهم.
وفيما نحن في زفّة الخطبة وقعت حادثة الهجوم على مبنى بلديّة الكشكيّة، حين طُرد عناصر التنظيم من المبنى (كانوا قد اتخذوه مقرّاً عسكرياً)، فترك الناس الزفة وذهبوا للعزاء واستطلاع الأوضاع. وعندها قرر زوجي أن الوقت غير مناسب للرحيل عن البلدة.
استمرّت معركتنا مع داعش 12 يوماً، وكانت أصوات إطلاق الرصاص كثيفة، وبعدما حاصرونا وقطعوا عنا الماء والكهرباء، خططنا أنا وزوجي للرحيل عن المنطقة بسبب اشتداد القصف علينا من الجهات الأربع. وكنت وقتها أحبس ابني داخل المنزل لخوفي عليه من الخروج أو الذهاب إلى القتال، أبقيته أربعة أيام إلى أن استطاع زوجي تأمين سيارة، فركبناها متوجهين نحو بلدة البْحَرة.
كنا نحتمي داخل السيارة وننام فيها، لكن انفجار مفخخة في منطقة قريبة منا جعلنا نغادر نحو حي الجعابي في بلدة الهجين. هناك ركنّا سيارتنا بجانب جدار وبقينا بِلا طعام خمسة أيام، ولا نستطيع مغادرة السيارة. أخيراً، أصرّ ماهر على الخروج، وذهب إلى دكان ليعود إلينا ببطيخة، طلب مني تسخين الماء له كي يستحم، اغتسل وسرّح شعره وغادر. اختفى من دون أن نعرف مكانه.
في الأيام الثلاثة التالية قطعنا الطريق إلى البوكمال أربع مرات ذهاباً وإياباً للبحث عنه، ثم توجهنا إلى بلدة السوسة وهناك اقتربت منا امرأة عجوز، كان اسمها أم أيمن، وعرضت علينا المساعدة. أعدّت لنا إفطاراً وسمحت لبناتي الصغيرات بالاغتسال في منزلها.
عرضت عليّ أم أيمن اصطحابي للبحث عن ابني في مدرسة كان عناصر داعش يعتقلون فيها عدداً من الشبان، وذهبت معها بعد تردّد، لكننا لم نجده، بحثنا عنه أسبوعاً كاملاً متنقلين بين السوسة والجعابي. لاحقاً ذهبنا إلى العراق، وكنا نعرض صورة ابننا أمام رجال التنظيم فيقولون لنا إن الشبان في عمره يُرسلون لدراسة الشريعة، في حال ألقي القبض عليهم. قلت لهم: “لا مانع من أن يدرس الشريعة لكن اسمحوا لنا برؤيته أو معرفة مكانه كي نطمئن عليه”. لكنهم رفضوا وطردوني من المكان.
عدنا بعدها إلى مدينة الميادين لعلمنا بوجود سجن للتنظيم فيها لكننا لم نجد ماهر أيضاً، وأخبرونا أن المعتقلين نُقلوا إلى سجن في حقل التنك النفطي. أردت الذهاب إلى هناك لكن سائقي التكسي رفضوا اصطحابي وحذروني أني لو ذهبت فلن أعود.
عدت إلى بناتي اللواتي تركتهن في منزل أم أيمن، وعثرنا في منطقة قريبة منها على كوخ صغير، نظفّناه وأقمنا فيه. لم نمتلك في ذلك الوقت سوى حصيرة أعطتنا إياها أم أيمن مع بضع بطانيات. لكن سكان المنطقة قدموا لنا لاحقاً الطعام وتبرعوا لنا بأغراضٍ من منازلهم.
طوال مدة إقامتنا هناك التي امتدت ثلاثة أو أربعة أشهر كنا أنا وزوجي نكمل كل يومٍ بحثنا عن ماهر. في تلك الفترة سمعنا أن الناس قد بدأوا بالعودة إلى بلدات الشعيطات بعد تسليم بنادق ومخازن رصاص للتنظيم، لكننا لم نكن نمتلك نقوداً لشرائها. وبعد أن تبرع لنا أهل المنطقة ببندقية ومخازن رصاص، سجلنا اسمنا لنعود إلى منزلنا، وطال انتظارنا.
رفض التنظيم السماح لنا، نحن تحديداً، بالرجوع. لكننا مع ذلك عدنا وأقمنا في منزلنا يوماً واحداً، قبل أن نتلقى تهديداً، عدنا على أثره أدراجنا إلى الكوخ مجدّداً. في تلك الفترة أيضاً استمر بحثي عن ماهر، حتى وصلتني أخبار تقول إنه معتقل في “مؤسسة السكّر” القديمة في مدينة الميادين. وحين ذهبت إلى هناك علمت أنه أُعدم.
لاحقاً، وفي الكشكية، جاء عدد من الشبان وطلبوا التكلّم مع زوجي، أخبرونا أنهم وجدوا جثمان ماهر مع 12 شاباً آخر في مدينة الغرانيج، وسألوني إن كنت أريد الذهاب لرؤيته فرفضت. جلبوا لي قطعاً من ثيابه وحذائه حتى تأكدت من موته. بعد تلك المرحلة بقيت أتلقى أخباراً من أناس يخبرونني فيها أنّ ابني حيّ، ويعرضون إعادته مقابل أن أهَبهم سيارة، لكن الحقيقة أن موته كان مؤكداً بعدما تعرّف أعمامه وأخواله على جثمانه.
عندما وجدوه مقتولاً كان ماهر مربوط اليدين والقدمين إلى الخلف، ويُرجّح أن تاريخ استشهاده كان في 10 آب/أغسطس العام 2014. دُفن من دون مراسم عزاء ولم نعلن أننا وجدناه، وكنت أقول لمن يتصل بي أن ابني حيّ وأنني قابلته البارحة، وذلك لكيلا يأتي أحد لتعزيتي.
أتذكر كيف أخذني إلى الحج وكان يقول لي إنه سيهب لي حياةً جديدة. لم يسمحوا لنا بعيش تلك الحياة. كنت أريد تزويجه، حتى أنني أخذت الهدايا للشابة التي أراد خطبتها.