Testimony

صالحة العبد المجيد الحمود

كان عبد الرحمن المصلح أكبر أبنائي الذكور، وقبله أنجبت ثلاث فتيات. ربَّيته واعتنيت به حتى كبر وبلغ من العمر 15 أو 16 عاماً، بدأ العمل في مجال البناء وصِرت أعتمدُ عليه. كان لديه أخوة من أبيه لكننا عشنا وحدنا في بيتٍ قديم.

 

كانت أمورنا بخير حتى جاء شهر رمضان العام 2014. صامَ عبد الرحمن الشهر وداوم على الصلاة، كانت أوضاعنا مستقرة حتى إنه بدأ يُفكر في الزواج وبناء منزل. أراد صنع مستقبل جيد لنفسه، كان منشغلاً بعمله ولم ينتسب إلى “الجيش الحر” أو “جبهة النصرة”.

 

في تلك الفترة، كان ابني يعود لنا بأخبارٍ عن تنظيم داعش الذي اختلفت الآراء حوله. أوّل تواجدهم في المنطقة بدَوا متواضعين، لكن لم يكد يمضي شهر حتى شرعوا في إقامة الحواجز ليعتقلوا من يدخَن أو يرتكب مخالفات تتعلّق باللباس. سلوكهم هذا، بما فيه من تضييق على الناس ومنعهم من العمل، جعل الرجال ينقلبون ضدهم. قطعوا عنا الكهرباء والماء، استمروا في الاعتقالات وفرض الضرائب ما أغضب الأهالي ومهّد لهجومهم على بلدية الكشكيّة مقرّ التنظيم.

 

كان عبد الرحمن بين الأشخاص الذين هاجموا البلدية في نوع من الفزعة العشائرية، لكنه قُتل أثناء الاشتباكات، بتاريخ 25 تموز/يوليو العام 2014، يومها حمل رفاقه جثمانه إلينا، فكانت ليلة سوداء ارتفعت فيها أصوات صراخنا ونحن نندبه. 

 

بعد هزيمتهم، عاد عناصر التنظيم إلينا وحاصرونا من الجهات الأربع. كانت أصوات الرصاص تملأ الفضاء من حولنا، لكني لم أكن في حينه أعبأ بشيء، كما لو أنني لست موجودة في هذه الدنيا. كنت منشغلة في التفكير بعبد الرحمن الذي فقدته، وبخوفي على إخوته.

 

بعدما استشهد ابني دفنّا جثمانه وأقمنا له عزاءً لمدة يومين، ثم بدأت حركة النزوح من الكشكيّة. لم يعلم الناس أين يذهبون لحماية أنفسهم، ونحن أيضاً فكرنا بضرورة الخروج من المنطقة. لاحقاً استطاع أحد أبنائي أن يؤمِّن لنا سيارة توجّهنا فيها إلى بلدة البْحَرة وسكنا منزلاً قيد البناء يخلو من الماء والكهرباء، تَكدّسنا فيه وبلغ عَددنا ما يُقارب الـ 100 شخص. 

 

لم تمض عدة أيام حتى بدأت مداهمات التنظيم لنا، اعتقلوا أشخاصاً من أقربائنا، حتى أنهم أخذوا من داخل المنزل الذي سكناه ثلاثة أو أربعة أشخاص. بقينا هناك ما يقارب الشهر، لكن ظروف العيش الصعبة دفعتنا إلى البحث عن منزل في مدينة هجين، حيث وجدنا محالاً تجارية قيد البناء فبتنا فيها لفترة. 

 

لم يطل بنا المقام في هجين، وسرعان ما جاء صاحب المحال إلينا وأمرنا بالخروج. جلب زوجي سيارةً ونقلنا فيها نحو مدرسة بمنطقة الحاوي. كانت الأبواب والشبابيك مخلّعة ما جعل المكان غير صالح للسكن خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء. وبعد أسبوع تركنا المدرسة نحو البْحَرة مجدداً وسكنّا بالقرب من الفرن. بقينا هناك ما يُقارب الشهر، وكنا، نحن النساء، نخرج لِجَلب الأغراض، في حين يبقى الرجال في المنازل خوفاً على أنفسهم. 

 

سمعنا لاحقاً أن الناس بدأوا العودة إلى بلدات الشعيطات بعد تسجيل أسمائهم وتأمين بنادق لإعطائها للتنظيم. عاد أهالي غرانيج إلى مدينتهم في بادئ الأمر. أما نحن فتردّدنا في العودة لكوننا ذوي شابّ قاتلهم. رغم ذلك أمنّا لاحقاً كلفة بارودة وأربعة مخازن وعدنا. وجدنا منازلنا منهوبة، لم يتركوا فيها شيئاً، حتى الأبقار أخذوها! سرقوا كل ما يمكن سرقته من منزلنا مثل بندقية ابني ودراجته النارية. 

 

في السابق كان عبد الرحمن يعمل، وكان يقول لي: “لا تخافي أنا إلى جانبك، سأحمل الأعباء عنك”.