كان أخي محمد عبيد عبد الرحيم (مواليد العام 1988) معيلاً لعائلة كبيرة. عملَ نجاراً للموبيليا، وكان وضعه المالي متوسطاً، لكنه استطاع تأمين حاجات الأسرة، إذ اعتنى بعد انفصال أمه وأبيه بأخوته إلى جانب ابنته.
سمعنا عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من الناس، وظننا في البداية أنه فصيل كغيره من الفصائل التي جاءتنا قبله، حتى دخل مدينتنا وبدأ باعتقال وقتل الناس. بعد مرور شهر على سيطرته، بدأ عناصره بمنع النساء من العمل أو الخروج دون محرم. فرضوا علينا غراماتٍ وضرائب، ما أفقد الأهالي قدرتهم على الاحتمال أكثر، وهذا ما دفع بشبان ورجال المدينة إلى الوقوف في وجههم (صيف العام 2014).
كان أخي قد وُظّف سابقاً مع مَن وظّفهم التنظيم كحارس على أحد آبار النفط، ولم يدر بالتطوّرات في المنطقة، إذ طرد الأهالي التنظيم من المدينة للمرة الأولى، وبعد عودة عناصره مجدداً، قتل أبناء العشيرة بعضاً منهم، ليردّوا باعتقال شبّان من موظفي حقل النفط، بينهم محمد.
لم نعرف عن أخي والمعتقلين معه شيئاً في البداية، بقينا ننتظر عودتهم طوال ثلاثة أيام، لكن عناصر داعش منعونا حتى من مغادرة منازلنا للسؤال عنهم. حشد التنظيم قوات من جنسيّات مختلفة، وحاصرنا عدة أيام وقطع عنّا الماء والكهرباء. على مدى 12 يوماً استمرّ إطلاق الرصاص فوق رؤوسنا، ثم أُمهل الناس ثلاثة أيام للخروج من أبو حمام.
اضطررنا إلى المغادرة مثل باقي السكان، وسرعان ما شاهدنا صوراً لأخي والمعتقلين الآخرين على الإنترنت. كان الأمر صعباً جداً على أمه وزوجته. بقينا نأمل وننتظر عودته سالماً. كنّا، نحن النساء، نذهب للسؤال عنه في حين لم يتمكن الرجال من مغادرة المنازل.
عندما خرجنا تركنا كل ممتلكاتنا، بتنا يوماً واحداً في غرانيج، لكن أصحاب المنزل الذي آوانا أخبرونا أن المداهمات وصلت المدينة. هناك توجّهنا إلى بلدة البْحَرة وسكنا منزلاً قيد البناء، لا تتوفر فيه الكهرباء ولا الماء والخدمات الصحّية. طوال تلك الفترة ظللنا نسأل عن أخي.
كانت فترة اللجوء التي عشناها، الأصعب في حياتنا، خصوصاً أن أخي هو المعيل الوحيد لنا. ضاق الناس ذرعاً بحياتهم وعانوا الفَقر، وحينما كانوا يحاولون الرجوع إلى بيوتهم لجلب شيء من مؤنهم وطعامهم كان عناصر التنظيم يمنعوهم قائلين: “كل محتويات البيوت باتت مُلكاً للدولة الإسلامية”.
بعد فترة، بدأت مفاوضات زعماء العشائر مع التنظيم لإعادة الناس إلى بيوتها، واشترط التنظيم على كل عائلة تريد الرجوع تسليم بارودة. كان أهالي مدينة غرانيج أول العائدين، وبعد ذلك بدأت عودة أهالي الكشكية، وعدنا معهم، وبقينا فيها بقينا ستة أشهر، وواصلنا البحث عن أخي. رغم أملنا في أن يكون حيّاً، لكننا بحثنا عنه أيضاً بين جثامين الضحايا.
بعدها أتيحت العودة إلى أبو حمام، لنجد أن عناصر التنظيم قد سيطروا على بيوتنا ونهبوا كل ما فيها، حتى إنهم اقتلعوا الشبابيك والأبواب، لم يكن هناك ماءٌ أو كهرباء، ولو استطاعوا أن يقطعوا عنا الهواء لفعلوا ذلك أيضاً! إذا ما تجرّأتْ امرأة على الخروج دون أن تغطي وجهها كانوا يجلدونها، وكذلك إن خرجت من دون محرم. من أين سنجلب محرماً وقد اعتقلوا وقتلوا جميع الرجال؟
طوال تلك الفترة لم نكن نعلم عن أخي أي شيء. كان حالنا مثل كثيرين ممن يبحثون عن أبنائهم. بقينا نبحث عنه ستَّ سنوات حتى وجدت جمعية شهداء مجزرة الشعيطات (رابطة أهالي ضحايا الشعيطات)، مكان المقبرة التي دُفن فيها. شاهدنا مقاطع فيديو وتأكدنا من وجوده هناك، ثم أعدنا دفن رفاته.
لاحقاً علمنا أن شخصاً كان قد وجدهم بعد قتلهم، ودفنهم في قرية جَمّة بلدة دَرنَج. ولأنه بات مطلوباً من داعش هرب إلى الإمارات العربية المتحدة، لكنه عاد بعد خروج التنظيم من المنطقة وعرض الفيديو على الجمعية، التي تواصلت بدورها مع أهالي الضحايا للتعرف على جثامين أبنائهم.
فُقد أخي أو اختطف بتاريخ 1 آب/أغسطس العام 2014، لكننا لا نعرف تاريخاً محدداً لموته، وبعد مرور ستة أعوام، استطعنا دفن جثمانه وأقمنا عزاءً له.
لم يكن محمد مجرد أخ لي، بل كان بمثابة أب، هو معيل العائلة. كان يساعدني في مصروف البيت، ويأخذني إلى الطبيب حينما أمرض، اعتاد أن يقول لي: “إن احتجتِ أي شيء أقدم لك عيوني”. ابنته اليوم مثل أي طفلة تفتقد أباها وتسألني عنه، أما زوجته فتحاول أن تقدم لها حنان الأم والأب في الوقت نفسه.