أنا روضة خضر الصالح، عمري 31 عاماً، وزوجي يُدعى ياسر علي رفيش من مواليد العام 1983. تعرفتُ عليه في العام 2005، وكان لا يزال طالباً في المدرسة، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية انتقل لدراسة الشريعة الإسلامية في دمشق.
زاول في ذلك الوقت، إلى جانب دراسته، أعمالاً حرة، وكان يستعين بعائلته لسدّ احتياجات أسرتنا، خاصة بعد أن رُزِقنا ببناتنا الأربع. ومع بدء الثورة السورية (العام 2011) ترك الدراسة قبل عامٍ واحد من تخرّجه، وتفرغ لعمله في النجارة، ولاحقاً في التجارة.
كغيرنا من سكان محافظة دير الزور، شهدنا تعاقب الفصائل المسلحة على المحافظة، مثل “الجيش الحرّ” و”جبهة النصرة”، وحتى وصول تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” إلينا. في البداية انقسمت آراء الناس حوله، منهم من اقتنع بأنه يمثل الإسلام الحقيقيّ، ومنهم من رفضه. ولاحقاً، بدأ أهالي المحافظة يشعرون بتفاقم رقابته على حياتهم، وساءهم تدخله في شؤونهم، فتغيّر موقفهم منه وسعوا إلى طرده من المنطقة.
مجدداً، عاد التنظيم إلى مناطقنا، حاشداً قواته من الموصل (العراق) والشدادي (شمالي شرقي سوريا) ومناطق أخرى، ليحاصر الكشكية من الجهات الأربع. تصاعدت من حولنا أصوات القصف والرصاص وبدأ الناس يتجنّبون النوم على الأسطح كما كانوا يفعلون سابقاً. انقطعت الكهرباء والماء، وندُرت المواد الغذائية نتيجة حصار المنطقة. في ذلك الوقت، أمهلنا عناصر داعش ثلاثة أيام للخروج من المنطقة. أصرّ زوجي على البقاء، وطلب مني اصطحاب الفتيات والرحيل.
خرجت من الكشكية إلى قرية البْحَرة مع خمس عائلات أخرى. حملت ثياباً لفتياتي، ونقلت معي أبقارنا. وهناك، أقمنا في منزل صغير، لكن نزوح العائلات استمرّ حتى وصل عددنا إلى عشرين. تشاركنا نفس المنزل ونصبنا خياماً في محيطه. إحدى بناتي أصرّت على طلب أبيها، وهذا ما حصل، لكن وفي اليوم التالي لوصوله (بتاريخ 11 آب/أغسطس 2014) وعند صلاة العصر، داهمت دورية تابعة للتنظيم المنزل الذي كنّا قد نزحنا إليه، واعتقلته مع اثنين من إخوته وابن أخيه وعمّه. اقتادوهم حفاةً، لم يسمحوا لهم حتى بارتداء أحذيتهم.
من مسافة قريبة سمعنا أصوات طلقات رصاص، لكننا لم نتوقع أنهم قتلوهم بتلك السرعة. لم يتجرأ أحد منا على التوجه إلى مصدر الصوت مباشرةً، بل بقينا في مكاننا مذعورين، إلى أن خاطرت إحدى النساء وذهبت، لتجدهم جميعاً قتلى. تعالت صرخاتنا وأغمي على البعض منا، لكن كان علينا التصرّف سريعاً ومغادرة المكان خوفاً من عودة التنظيم إلينا واعتقال من تبقّى من الرجال.
عند المغيب بدأنا بنقل أغراضنا استعداداً للرحيل وفي الواحدة ليلاً ذهبت سيارة بأضواء مطفأة لجلب جثامين رجالنا. طلبوا ممن تريد منّا إلقاء النظرة الأخيرة على فقيدها، أن تفعل ذلك بصمت، ومُنعنا حتى من البكاء. لففناهم على عجلٍ ببطانيات وشراشف، وذهبت مجموعة منّا لدفنهم من دون استخدام الإنارة وبأقصى هدوء. في المقبرة لم يكن عدد المدافن كافياً، ولم تتّسع للجميع، فدفن شقيق زوجي وابنه معاً.
توجهنا جميعاً إلى فناء ونصبنا خيامنا قرب سور منزل لم يكتمل بناؤه، بقينا هناك ما يزيد عن الشهر، في ظروفٍ مأساوية، خصوصاً وأن الناس كانوا يخافون الاقتراب منّا أو مساعدتنا، فنحن من أبناء عشيرة الشعيطات. مع اقتراب موسم الشتاء انتقلنا إلى بلدة الجرذي لنعيش في منزل متهالك بعدما أفرغناه من التبن.
عانت فتياتي ظروفاً نفسية صعبة، فكُبراهنّ كانت في الصف الثالث الابتدائي يوم قتل أبوها. كنّ متعلقات به، واقتياده من أمامهن حافي القدمين حطّم نفسياتهن، أما الصغيرة فظلت تسأل طوال أشهر: “متى يعود والدي من الجنّة؟”.
لاحقاً بدأت المفاوضات من أجل ترتيب رجوعنا إلى القرية. كان على من أراد العودة تسجيل اسمه وتسليم بندقية للتنظيم. البعض منا استدان وآخرون باعوا ما تبقى معهم من مواشي أو أغراض، حتى استطعنا تأمين البنادق. من بلدة الجرذي عبرنا البادية نحو مدينة الكشكية، بدت البادية أشبه بأرض مجزرة، أفقدتنا رؤية الأموات المنتشرين في كل مكان ما تبقى من عقولنا.
عدنا لنجد منازلنا منهوبة، نظّفناها من الحيوانات النافقة واستقرينا مجدداً بها.
كان زوجي يطمح إلى إنهاء دراسته الجامعية لكي يصبح أستاذاً في الشريعة. حَلُم أيضاً بتوسعة محله ليصبح موزعاً لدمى وألعاب الأطفال في القرى المجاورة، لكنّ حلمه لم يكتمل.
لم تنته مضايقات التنظيم بعد رجوعنا إلى الكشكية، خصوصاً في ما يتعلق بقواعد “ديوان الحسبة” المفروضة على لباسنا وحياتنا، ولطالما تجنّبنا الخروج من منازلنا إلا عند الضرورة. أما حين كنا نتوجه للعمل في الحقول فكانوا يطردوننا قائلين: “يُمنع على النساء الخروج للعمل”.
والآن، حياتي الآن مع بناتي صعبة جداً، مع ارتفاع تكاليف المعيشة وقلة فرص العمل، أوضاعنا تحت الصفر.