تزوجت محمداً العام 2003. كان آنذاك في الخدمة العسكرية، وبعدها بدأ العمل مع أخوته كلحّام. عشنا حياةً جيدة في بلدتنا، أبو حمام، وبقينا في بيت العائلة أربعة أعوام قبل الاستقلال في عِمارة أخرى. مع الوقت كبُرت عائلتنا وأنجبت أربعة صبيان وثلاث بنات. لم يكن لحياتنا مثيل، كانت أوضاعنا المالية جيدة، ولم تحصل خلافات بيننا، واهتم محمد بأبنائه وأمّن حاجاتهم.
قبل العام 2011، اتخذ محمد (وهو من مواليد 1982) زوجة أخرى مدة عشرة أشهر. طوال تلك المدة لم ينخرط في القتال إلى جانب “الجيش الحر” أو “جبهة النصرة”، بل ظل مكتفياً بعمله وعائلته. لاحقاً بدأنا نسمع الأخبار عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وعلمنا أنهم وصلوا إلى مناطقنا. طوال شهر رمضان العام 2014 كانت معاملتهم جيّدة معنا، إذ وزّعوا الزكاة ووظّفوا الشبّان في حقول النفط. لكن الأمر اختلف مع اقتراب عيد الفطر، إذ بدؤوا بفرض القيود على تدخين الشباب ولباس النساء. وبعد قتلهم ثلاثة شبان من منطقتنا ثار الناس عليهم وطردوهم من البلدة.
لاحقاً هاجم شبابنا مبنى بلدية الكشكيّة، وكان مقراً للتنظيم في بلدات الشعيطات. وكرد فعل على ذلك استهدف عناصره الشبان الذين وظّفوا سابقاً في آبار النفط، واعتقلوا كل شاب ينتمي إلى عشيرتنا. وبدأت المعارك بيننا وبينهم. قتلوا الكثير منا ونحنا كنّا مصرّين على المطالبة بحقّنا. قالوا إننا خنّا عهودنا معهم وأنهم سيقتحمون قرانا ويقتلوننا ردّاً على ذلك.
استمرت المعارك والحصار 12 يوماً، وكانت القذائف وطلقات الرصاص تسقط علينا من كل الاتجاهات، وكان أمراً مخيفاً. بعد ذلك خسر رجالنا أمامهم وفرضوا علينا مهلة مدتها ثلاثة أيام للخروج من القرية مع التهديد بالموت لمن يبقى. بناءً على ذلك، توجهت مع وزوجي وأطفالنا نحو بلدة البْحَرة. هناك سكنّا بيوتاً فارغة ومهجورة ليس لها سوى سقوفٍ وجدران، حُشرنا في إحداها مع عائلة زوجي وأمه وإخوته. كنا خائفين، ولم يتوقف الأطفال عن البكاء طلباً للطعام.
في ذلك الوقت صار الرجال يختبئون في البراري خوفاً من التنظيم ودورياته. وكانوا يعودون إلينا عندما تتوقّف المداهمات. سرعان ما نفد الطعام الذي نمتلكه تماماً ولم نكن قادرين على تأمين المزيد منه. لذا قرّر زوجي الذهاب للبحث عن مخابز في البْحَرة. نجح في اليومين الأوّلين في جلب الخبز وفي الثالث أخذ درّاجته النارية واصطحب ابننا ذا السبع سنوات، من دون أن يعلم أنه مراقب من عناصر التنظيم. اعتقلوه وأرادوا أخذ ابني معهم لكنه ناشدهم ترك الطفل.
بعد ساعات، أعاد أشخاص من معارفنا ابني، وأبلغونا باعتقال زوجي. تعالت صرخاتنا وتوجهت حماتي إلى الشارع. أوقفت كل حافلة لداعش بحثاً عن محمد من دون أن تجده. كانت تؤكِّد لهم أن ابنها لم يشارك في القتال.
بعد أربع أيام من اعتقاله، علمنا أن محمد قُتل بطلقات بارودة صيد. لم نُصدق ذلك اعتقاداً منا بأن التنظيم الذي يمتلك عتاداً وأسلحة متطورة لا يقتل ببنادق الصيد. وطوال تلك الفترة لم توقف والدته البحث عنه، وكان عناصر داعش يوهمونها بوجود سجون سرّية لشبان الشعيطات، واعدين بأنّها قد تجد ابنها فيها بعد عودتنا إلى بلداتنا.
بدأت مفاوضات العودة، ورجع أهالي الغرانيج أولاً، ثمّ أهالي الكشكية. أمّن أخوة زوجي بندقية ليَ كي أعود وأسكن مع باقي أفراد العائلة في الكشكية (اشترط التنظيم تقديم سلاح مقابل عودة المهجرين). لاحقاً عرف كامل، أخو محمد، تفاصيل مقتله، وتأكد أنه بالفعل اعتُقل أوّلاً في أحد السجون المنتشرة في المنطقة. ومع أن العناصر كانوا على وشك إطلاق سراحه بعد تأكيدات بأن محمداً لم يكن مقاتلاً، وردت وشاية معاكسة فقتلوه على أثرها. أقسم أنه لم يحمل سلاحاً ولم يقاتل أحداً.
تعرفنا لاحقاً على مكان دفن زوجي محمد، بعد أن دلنا عليه أحد الشهود على حادثة قتله مع ثلاثة آخرين. ذهبنا إلى المكان واستخرجنا جثثهم، وعندها تأكّدنا أن محمداً قد قُتِل فعلاً ببندقية صيد. أما الثلاثة الآخرون فقُتل أحدهم بالرصاص واثنان قُطع رأساهما. عناصر التنظيم دفنوا كلباً في ذات المقبرة كما لو أنهم يقولون لنا: “ميتتكم كميتة هذا الكلب، ونحن لا نكترث لكم”.
دفنا زوجي من دون إقامة عزاء له، ولم نتجرأ على إعلان موته خوفاً على إخوته. لم نعرف تاريخاً دقيقاً لاستشهاده، لكنه اعتقل بتاريخ 10 آب/أغسطس العام 2014.
المآسي التي سببها التنظيم طالت الجميع وكنا نخاف إعلان وفاة زوجي حماية لأخوته، إذ اعتبر داعش أن كل من قُتل كان مقاتلاً، رغم أن أبرياء كُثراً قضوا ظلماً. حتى نحن النساء لم نسلم منهم، كنا نريد أن نعود إلى حياتنا السابقة، أن نذهب لقطاف الخضار ونخرج إلى الحقول لكننا لم نكن نتجرأ على ذلك.