Testimony

حوريّة الإبراهيم اللاحِج

عشنا في السابق حياةً بسيطة، لم يكن هناك ما يُعكر صفونا. عشنا براحة وسعادة، حتّى إن زوجي عبد الرزاق الحسن المحمد الحمود، أنهى خدمته العسكرية مُبكراً وبعدها بعامٍ سافر إلى السعودية للعمل، حينها تحسنت أوضاعنا واستطعنا الاستقلال في دارِ صغيرة كنت أحسّها قصراً، رغم أنها كانت مسقوفة بأعمدة الخشب، لكن أتمنى لو يعود بي الزمن لأجلس هناك كما كنت أفعل سابقاً. 

 

بعد سنوات بدأنا ببناء منزل جديد لنا، وكانت عائلتنا قد كبرت بعد إنجابي بنتين وخمسة صبيان. انتظر زوجي حتَى استطاع تأمين إقامات لاثنين من أبنائنا في السعودية قبل الرجوع للاستقرار بيننا، خصوصاً أن صحّته لم تعد تسمح له بالعمل والسفر كما في السابق.

 

لاحقاً بدأت الأحداث وبدأنا نسمع بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ونعرف أخبار تقدّمه التدريجي في مدينة الميادين ومنطقة عشيرة البورحمة، باتجاه بلدتنا أبو حمام. باتوا يتردّدون على الجوامع لإعطاء دروس في العلم والإيمان، في البداية نجحوا في استمالتنا لأننا نريد الدين، لكن الأمر تغيّر عندما بدؤوا باعتقال الناس كنوع من الثأر. عندما كان زوجي يعود إلى المنزل في تلك الفترة كنت أسمع منه أخبار تقدّمهم، وسرعان ما انخرط هو في القتال ضدّهم، وكان لا ينام الليل ويفزع لكل من يطلب مساعدته. قاتل زوجي ومن معه التنظيم لأنهم اعتبروا، بعد ما رأوه، أَنّ عناصر داعش ليسوا من أهل الإسلام.

في تلك الفترة حشد التنظيم قواته ضدّنا، وبدأت أصوات الرصاص والمدفعيات تتعالى من حولنا. استمرت المعارك 12 يوماً، وقد طلبوا منا مغادرة منازلنا ثلاثة أيام إلى أن تتوقَّف المعارك، خصوصاً مع فرض الحصار الذي أدّى إلى انقطاع المواد الغذائية والماء والكهرباء. تجمع أفراد أسرتنا في سيارة وكلما حاولت إحدانا أخذ شيء من أغراضها كانوا يقولون لها “لا حاجة لذلك سنعود بعد عدة أيام”.

 

قبل أن أغادر أبو حمام كُنت قد تلقيت اتصالاً يعلمني بمقتل زوجي الذي استهدفته دبابة على جسر الظهرة (البادية)، لكنني رفضت تصديق الخبر وأصرّيت على البقاء في أبو حمام أملاً بعودته. لكن ومع تصاعد المخاطر الأمنية اضطررت إلى الخضوع أخيراً والخروج منها لضمان سلامة عائلتي. توجّهنا نحو حيّ اللايذ في مدينة الكشكية، وهناك فوجئنا بأنّ الظروف الأمنية أشد خطراً ممّا هي عليه في أبو حمام، مع اشتداد القصف والمعارك. 

من اللايذ إلى مدينة الغرانيج ومنها إلى البادية غيّرت السيارة، المزدحمة بأسرتي وعائلات أخرى، وجهتها مراراً بحثاً عن ملاذٍ آمن. أخيراً استقرينا في مدرسة ضمن ظهرة (البادية) لكن دوريات التنظيم داهمت المكان واعتقلت عدداً من الشبّان. لم يطل مَقامُنا في المدرسة وسرعان ما انتقلتُ مع 75 شخصاً آخر إلى بلدة الهجين لنسكن جميعنا بيتاً مؤلفاً من ديوان وباحة خارجية، ومنه انتقلنا لاحقاً للإقامة في مدرسة.

طوال كل تلك المدة لم يفارقنا الخوف خصوصاً وأن دوريات التنظيم ظلّت تعتقل كل رجلٍ تراه من عشيرتنا. أخيراً ضغطت عائلتي عليّ للتوجه نحو حمص، لكنني وحتى ذلك الوقت كنت أرفض الرحيل لأني لَمّا أصدق وفاة زوجي. كانوا يقولون لي زوجك مات، توقفي عن التفكير فيما مضى وفكري بعائلتك، وكنت أقول لهم “كيف أستطيع نسيان زوجي”؟ 

 

في حمص أقمتُ في قرية وادي غزالة، واضطررتُ إلى السفر للعلاج في دمشق نتيجة الظروف النفسية الصعبة التي عشتها. لاحقاً بدأ الناس يعودون تدريجياً إلى بلدة الكشكية وعُدت معهم، ولأن منزلي في بلدة أبو حمام، اضطررتُ إلى الانتظار ستة أشهر قبل أن أعود إليه.  كنت أحاول زيارته فيمنعونني، وأحياناً أتسلل إليه ليلاً لكي أتأكد من وضعه. وفي كل مرة زرته كنت أرى أشياءنا تنقص وتختفي. طلبت فتياتي الكبيرات مراراً أن آخذهن لزيارة المنزل، وخوفاً على سلامتهن رفضت ذلك. أحياناً كنت أصعد معهن إلى سطح أحد البيوت في الكشكية ليرين منزلنا من بعيد.

 

أصعب شعور أن تأتي إلى بيتك متسلِّلاً. كنت حينما أزور المنزل أُمنع من الدخول أو أخذ شيء من أغراضي، وكان عناصر التنظيم يقولون لي: “أنتِ سارقة، هذه أموال الدولة الإسلامية”. وبعد مرور ستة أشهر من إقامتي في الكشكية كان منزلي قد نُهب بالكامل. حتى ذلك الوقت امتلكتُ أملاً ضئيلاً بأن يكون خبر وفاة زوجي غير صحيح، لكن ومع رجوعي إلى أبو حمام أكد المقرَّبون مني بصورة قاطعة حقيقة موته بتاريخ 1 آب/أغسطس 2014. 

لم يجرح زوجي مشاعري يوماً بكلماته، كان زوجاً وصديقاً لي، كنت أقول له من المستحيل أن يكون هناك إمرأة في العالم تُحبك مثلما أحبك. حتى الآن ما زلت أذكر كلامه ومزاحه كأنه ما يزال يعيش معنا.