أنا ترفة الأمين الغدير، والدة الشهيد حَمَد عبيد الموسى من مواليد العام 1996. دَرَس ابني حتى الصف السادس وبعدها ترك المدرسة، إذ لم يكن مستواه الدراسيّ جيّداً، لذا انتقل إلى العمل في تصليح الدرّاجات الناريّة. كانت أحوالنا الماديّة صعبة واعتمدنا على مدخوله اليوميّ لتأمين احتياجاتنا. في وقت لاحق، أرسلناه إلى السعودية حيث عمل ستة أشهر حتى حلّ شهر رمضان العام 2014، فعاد إلينا في زيارة أردنا تزويجه في خلالها.
كنا في مدينتنا الكشكية نسمع باسم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لكننا لم نعرف عنه شيئاً. في البدء اعتقدنا أنهم مسلمون مثلنا، ظننّا أنّهم جيّدون ويجمعون الناس في الجوامع للصلوات ووجبات الإفطار. لكن سلوكهم تغيّر معنا مع اقتراب شهر رمضان من نهايته. فقد بدأوا يلاحقون الرجال المُدخنين ويفرضون قواعد على لباس النساء والرجال، واعتقلتْ دورياتُهم من خالف تلك القواعد، من دون أن نعلم إلى أين يأخذونهم.
مع اقتراب العيد ازدادت المضايقات وبدأ عناصر داعش يهددون بدخول الكشكية، وعلى أثر ذلك انتفض الناس عليهم وهاجموا مقرّهم في مبنى “البلدية، فردّ “داعش” بشنّ حملة اعتقالات.
في تلك المرحلة لم نكن نعرف أنهم يذبحون الناس، كما لم ندرِ أنّهم حشدوا قواتهم من العراق وأماكن أخرى ليشنّوا حملاتهم ضدنا. بدأ التنظيم محاولاته الدخول إلى بلدات الشعيطات لكن شبّاننا تصدّوا له بدايةً، وبعدها أطبق حصاره علينا من الجهات الأربع.
استمرت المعركة بيننا وبينهم 12 يوماً وفرضوا علينا حصاراً شديداً، وشرعوا في اعتقال من يحاول السفر أو الخروج من المنطقة، كما علت أصوات القصف والقذائف والمدفعيات من حولنا، لذلك التزمنا منازلنا خائفين وغير قادرين على الخروج. كان أغلب الناس ينامون مع أذان المغرب بسبب انقطاع الكهرباء والظلام.
بعد ذلك أمرنا عناصر داعش بمغادرة قرانا، واعدين بأننا سنعود إليها في غضون ثلاثة أيام، فخرجنا بملابسنا التي نرتديها وتركنا خلفنا كلّ ما نملك. إلا أن الأيام الثلاثة امتدت لتصبح خمسة أشهر.
نزحنا في اتّجاه بلدة البْحَرة وسكنا محلات تجارية على الشارع العام تشاركناها مع ستّ عائلات. في ذلك الوقت باتت دوريات التنظيم مصدر خوفنا الأساسي، لأنها كانت تنفّذ عمليات مداهمة كثيفة ومستمرة وتعتقل من تجده من الشبان. عشنا أياماً مليئةً بالخوف، تضجّ بأصوات إطلاق النار وبكاء الأطفال. كان رجالنا لا يتجرّؤون على الخروج ويبحثون بصورةٍ مستمرة عن أماكن آمنة يختبئون فيها. أما نحن النساء فتوليّنا في ذلك الوقت تأمين حاجيات أُسرنا وجلب الماء.
بعدما ضقنا ذرعاً بأوضاعنا السيئة قررنا ترك المنطقة واستأجرنا سيارة توجهنا بها نحو بلدة الشعفة، لكن دورية تابعة لتنظيم الدولة اوقفتنا واعتقلت رجالنا وشبّاننا. جمعونا في مدرسة وفصلوا الرجال عنا، ضربوهم وعذبوهم ليلة كاملة وبعد ذلك أجبروهم على ركوب باصات ونقلوهم إلى جهة مجهولة. ارتفعت أصواتنا نحن النساء، هذه تستجدي حماية أبيها، وتلك أخيها أو ابنها. حاولتُ منعهم من أخذ ابني لكن أحداً لم يلتفت إلي.
خرجت مع باقي النسوة لاحقاً من المدرسة بعد وساطات من أهالي بلدة الشعفة لإطلاق سراحنا. إثر ذلك، قضينا أسبوعاً في العراء في الشعفة محتمين بشجرة كينا، بينما كانت الرياح تعصف من حولنا. طوال ذلك الأسبوع أكملت البحث عن ابني وتوجهت إلى مراكز خاصة للتنظيم في الميادين للسؤال عنه لكنني قوبلت دائماً بجوابٍ واحد: “لم نره ولا نعرف مكانه”.
بعد ذلك، انتقلنا للإقامة في مدرسة ضمن حي في مدينة الهجين لكننا بقينا خائفين من دوريات التنظيم التي كانت تنفذ مداهمات متكرّرة. لاحقاً وبعد ومفاوضات بين وجهاء المنطقة والمسؤولين في التنظيم سُمح لنا بالعودة إلى قريتنا. وجدتُ بيتي منهوباً بالكامل، أخذوا البقرة وقطعوا الشجرة.
استأنفت عمليات البحث عن ابني لاكتشف أنه قُتل أسوة بالشبان الآخرين في البادية. البعض منا استطاع التعرّف على موتاه وآخرون لم يستطيعوا ذلك بسبب انقضاء وقت طويل على عمليات الإعدام. ميّزنا جثمان ابني من ثيابه، ولأنه كان يعمل في تصليح الدراجات النارية، كانت آثار زيوت المحركات لا تزال ظاهرة على يديه.
لا أعرف تماماً تاريخ اليوم الذي استشهد فيه لكن اعتقاله حدث في آب/أغسطس العام 2014. لاحقاً منعونا حتى من إقامة طقوس العزاء له، دفنّاه على عجل بعد أن لفّفْنا جثمانه ببطّانية.
في الأشهر التي تلت عودتنا إلى الكشكية استمرّت مضايقات التنظيم لنا وتضييقه على لباسنا وسلوكنا، كما أنه لم يسمح لنا أساساً بالعودة إلى منزلنا إلا بعد أن أخذ منّا بارودة وأربعة مخازن رصاص.
اليوم أستعيد ذكرى حمَد وكم كان حنوناً معي، اعتاد تقبيلي عند خروجه من المنزل وعند عودته، كنت أحلم بتزويجه لكنه توفي قبل أن يتسنّى لي أن أفرح به.