يقع سجن حلاوة في بلدة أبو حمام بريف دير الزور. وكان في الأصل منزلاً مؤلَّفاً من طابقين، تعود ملكيّته لرجل من عشيرة الشعيطات. أُسس السجن صيف العام 2014 بعد تمدّد التنظيم عسكرياً في مناطق الشعيطات، وتهجير سكانها، ما ساعده على السيطرة على جزء من المنازل والممتلكات الخاصة.
احتجز التنظيم في هذا المنزل رجالاً من الشعيطات بصورة خاصة، إلى جانب أشخاص مُتهمين بالقتال ضدّه، أو بمخالفة قواعده التي فرضها على حياتهم اليومية. واستمرّ الوضع على هذه الحالة حتى مطلع العام 2018، تاريخ خروجه بصورة نهائية من المنطقة.
“متحف سجون داعش” درس السجن بالتفصيل، بعد تصويره ومسحه بكاميرات 360 درجة، وتسجيل أربع مقابلات مُصوّرة مع معتقلين سابقين سُجِنوا فيه بين العامَيْن 2015 و 2016. كلّ هذا ساعد على تحليل المبنى معمارياً وتحديد التغييرات وأعمال التخريب التي أحدثها التنظيم فيه.
كان السجن أمنياً في الأساس، اعتقل التنظيم فيه من شكّ في عمالتهم أو قتالهم ضدّه. لكن بعض الشهادات التي سجلناها تشير إلى أنه حوى أيضاً مهرّبين ومتَّهمين بتجارة السجائر. ولذلك يُرجح أنّ السجن كان أشبه بمركز توقيف ارتبط بجزء منه بـ”ديوان الحسبة” التابع لتنظيم الدولة، والمسؤول عن القضايا الشخصية والمالية والعقدية.
بناء على ذلك، يتتبع التحقيق تاريخ السجن، وإداراته المختلفة، ويسعى إلى فهم طبيعته ومدى اختلافه وتشابهه مع السجون الأخرى في المنطقة. كما يسلط الضوء على حياة المعتقلين فيه آنذاك، ويتطرق إلى مستويات العنف وطبيعة وآليات التعذيب التي مورست عليهم.
تبلغ مساحة المنزل/السجن 440 متراً مربعاً، وهو مؤلّف من طابقين، استُعمل الأرضي لاحتجاز المعتقلين، وتضمّن أربع منفردات وقاعتي اعتقال إلى جانب موزع حُوّل إلى مطبخ ومخزن للمصادرات، وقد سُمح للمعتقلين بطهو طعامهم فيه أحياناً. أما الطابق الثاني فضمّ قاعتي تحقيقٍ أو ثلاثاً، وغرفة استراحة لعناصر التنظيم، إلى جانب مطبخٍ وحمام خصّصهما عناصر التنظيم لأغراضهم الشخصية.
ولأنه ظّل تحت سيطرة التنظيم أكثر من ثلاث سنوات، توفَّر لإدارة السجن الوقت الكافي لإجراء العديد من التعديلات على المنزل بغرض تحويله سجناً حصيناً، بخلاف سجون أخرى درسها المتحف في منطقة ريف دير الزور والتي لم نلحظ فيها تعديلات من هذا النوع، كونها أنشئت بشكل طارئ في أثناء اشتداد المعارك بين التنظيم وعشيرة الشعيطات.
يظهر التحليل المعماريّ أنّ التعديلات التي أُجريَتْ على المنزل، شملتْ تحويل الديوان[1] إلى أربع منفردات، بعد إضافة أبواب حديدية بدل الخشبية، فضلاً عن سدّ نوافذ قاعتي الاعتقال بالإسمنت والبلوك بشكل كامل، ما جعل المكان مظلماً بشكلٍ شديد ليلاً نهاراً، كما أن انقطاع الكهرباء المستمر في المنطقة دفع السجانين إلى الاكتفاء بوضع شرائط الضوء (الليدات- LED)، التي شاع استعمالها في سوريا بعد العام 2011، كبديل من المصابيح الكهربائية.
بلغت مقاييس كل من المنفردات المستحدَثة 70 سنتيمتراً عرضاً و150 سنتيمتراً طولاً، وتضمنت حمّاماً داخلياً، فيما اقتصرت موجوداتها على فراش وبطانية. أما قاعتا الاعتقال الجماعيّتان، فتضمنتا وسائد وبطانيات وسجاد، إلى جانب أدوات تحضير الشاي للمعتقلين.
سجّل المتحف شهادات أربعة ناجين من السجن، أحدهم اعتقل في العام 2015، والآخرون في العام 2016، وبيّنت المقارنة بين إفادات الشهود أنّ هناك تنوّعاً في أسباب اعتقالهم وتبايناً في التّهم الموجّهة إليهم، كما تبيّن وجود تفاوت في أعداد الموقوفين بحسب الفترات الزمنية التي اعتُقلوا فيها.
رياض حمدان العلي، من مواليد مدينة الكشكية العام 1987، اعتُقل في كانون الأول/دسمبر العام 2015 لمدّة 11 يوماً، بتهمة المشاركة في قتال تنظيم الدولة. وهو يروي أنه بمجرد وصوله إلى السجن فُصل عن باقي المعتقلين وأُخذ مباشرةً إلى التحقيق. واتّضح لاحقاً أن سبب اعتقاله كان امتلاكه بندقية كان قد باعها أساساً، وهو ما عدّه التنظيم تصرفاً بممتلكات وسلاح “الدولة الإسلامية”، على اعتبار أن كل قطع السلاح الموجودة في المنطقة هي ملكٌ له. يذكر رياض أن عدد المعتقلين في ذلك الوقت بلغ 50 أو 60، لكن عند خروجه كان العدد قد تقلّص إلى ثلاثة معتقلين فقط.
في شتاء العام 2016 اعتُقل بشار رياض حمدان النايف من مواليد العام 2000، وذلك بتهمة “الرّدة” وبكونه “نصيريّاً” بحسب وصف داعش، أي مرتبطاً حكماً بالنظام السوري. قدّر بشار أعداد المعتقلين عند وجوده في السجن بـ 45 معتقلاً غالبيتهم من أبناء عشيرة الشعيطات. كما ذكر أنّ تهم هؤلاء تنوّعت بين المتاجرة بالدخان وامتلاك شبكات الإنترنت، إلى جانب مقاتلة التنظيم.
أما محمد علي الحمد، من مواليد الكشكية العام 1991، فقد اعتقل في شهر آذار/مارس العام 2016، بناءً على وشاية به حول امتلاكه شبكة إنترنت مخفيّة في منزله. يقول محمد إن السجن ضمّ عند تواجده فيه 25 رجلاً غالبيتهم من أبناء الشعيطات. ويذكر أن التنظيم في تلك الفترة اعتقل 50 شخصاً دفعة واحدة من أبناء أبو حمام الذين حاولوا الرجوع إلى قريتهم، وأبقاهم عنده ثلاثة أيام، ولذلك جمع خلالها سائر السجناء ضمن قاعة واحدة.
يشير محمد كذلك إلى أن معظم المعتقَلين معه اتهموا بامتلاك شبكات إنترنت، وآخرين بالعمالة للنظام السوري أو بمحاولة قتال عناصر التنظيم. لاحظ الشاهد أيضاً تمييزاً في معاملة المعتقلين، فأحدهم لقي معاملة خاصة لكونه من أبناء قرية عُرفت بمبايعتها التنظيم وخسرت العديد من رجالها ممّن حاربوا ضمن صفوفه.
لاحقاً، وفي صيف العام ذاته، اعتقل جاسم المحمد، من مواليد الكشكية العام 1989، على خلفية عمله في بيع وتهريب الدخان. يذكر جاسم أنّ فرقة المداهمة التي قبضت عليه تألّفت من عناصر محليّين وآخرين “مهاجرين”، يُعتقَد أنّهم توانسة ومغاربة ومصريّون. لم يعمد هؤلاء إلى تغطية وجوههم عند اعتقاله، بخلاف عناصر التنظيم من أبناء دير الزور. في ذلك الوقت بلغ عدد المعتقلين في سجن حلاوة 15 معتقلاً فقط ومعظمهم من تجّار الدخان.
تشير مقاطعة الشهادات السابقة أن القدرة الاستيعابية للسجن كانت تصل إلى 60 سجيناً تقريباً، لكن في بعض الأحيان كان يبقى فارغاً. وقد روى الناجون الشهود أنّ معظمهم اقتيد في الغالب إلى المنفردات المُظلمة في سجن حلاوة ليقضي فيها ليلةً أو أكثر قبل نقلهم إلى قاعات الاعتقال وغرف التحقيق.
كذلك تُظهر الشهادات أن عناصر التنظيم ميّزوا في المعاملة بين المعتقَلين، فأبناء الشعيطات تعرضوا للتعنيف والتمييز أكثر من غيرهم. ومَردّ ذلك إلى العداء الكبير الذي يكنّه التنظيم لأبناء العشيرة، الذين خاضوا قتالاً عنيفاً ضدّه ورفضوا مبايعته، فاتهمهم بـ “الردّة” ونفّذ على أثر ذلك مجازره الكبيرة فيهم[2].
وفق الشهادات التي جمعناها تعاقب على سجن حلاوة سجّانون مختلفون، كانت لهجاتهم تشي بأنهم سوريّون في الغالب، من دير الزور وحمص وحلب والرقّة، إلى جانب بعض “المهاجرين” من خارج سوريا.
يذكر الشاهد جاسم المحمد مثلاً أنّ محقِّقاً (يعتقد أنه جزائريّ أو تونسيّ) كان من بين الذين تولّوا التحقيق معه في تموز/يوليو العام 2016، إلى جانب آخرين من أبناء دير الزور. تركّزت جلسات التحقيق معه حول متاجرته بالسجائر وأسماء المهربين، إلى جانب أسئلة تتعلق بالمعارك السابقة بين التنظيم وعشيرة الشعيطات، إذ سُئل عن مقاتلين معيّنين كانوا مطلوبين لداعش.
لم يتحدّث المعتقَلون في هذا السجن عن مثولهم أمام قاضٍ شرعيّ، بل اقتصرت إدارته فقط على المحقّقين والسجانين، إلى جانب فرق مداهمة تابعة مباشرة للسجن.
بيّنت الشهادات أيضاً أنه كان هناك علاقة بين سجن حلاوة وسجن “الشرطة الإسلامية” في منطقة أبو حمام، الذي تعرض للتدمير في وقت لاحق، إذ كان المعتقلون يُنقّلون أحياناً بين السجنين. حيث تولّى الإشراف على هذه العملية سجّانٌ لُقّب بـ “أبي زبير التونسي”. كذلك ورد على ألسنة المعتقلين اسم سجن آخر يُسمى “سجن الحوايج” خارج بلدات الشعيطات، نُقل بعض المعتقلين إليه من سجن حلاوة.
على صعيد السجانين الذين تولوا الأمور اللوجستية المُتعلقة بإطعام المعتقلين والإشراف على أوضاعهم ضمن قاعات الاعتقال، كرّر الشهود الذين كانوا في السجن العام 2016، اسمَيْ سجّانين اثنين، أوّلهما يُدعى “أبو دجانة” قالوا إنه من دير الزور، وآخر يُدعى “أبو عبيدة” من إدلب.
أجمع الشهود على الفرق الواضح في تعامل كلا السجّانَين معهم، فأبو عبيدة أظهر ليناً أكثر وتفهماً لحاجات المعتقلين الذين حصلوا أثناء دوامه على كميّات أكبر من الطعام، أو طرحوا عليه أسئلة لمعرفة مصيرهم. كما أن أبو عبيدة سعى مثلاً إلى تركيب شرائط الإضاءة كيلا يبقى المعتقلون في الظلام.
أما “أبو دجانة”، وهو معاون “أبو عبيدة”، فعُرف بمعاملته السيّئة للمعتقلين بالرغم من صغر سنّه، إذ لم يكن قد تجاوز السادسة عشر في حينه، فكان يبادر إلى ضرب المعتقلين من دون سبب، ويسيء إليهم لفظياً، إلى جانب تقنينه كميات الطعام المقدَّم إليهم.
جرت معظم عمليات التحقيق في الطابق الثاني من سجن حلاوة، باستثناء الفترات التي كان فيها عدد المعتقلين قليلاً، إذ في هذه الحالة أُجرِيت التحقيقات مع بعضهم في قاعات الاعتقال.
وكان اهتمام عناصر التنظيم منصبَّاً على قضية سلاح أبناء الشعيطات. فمثلاً، تركّز التحقيق مع بشار رياض حمدان، على اتهامه ببيع السلاح للفصائل المقاتلة للتنظيم وتمويلها، كما طرحوا عليه أسئلة تتعلّق بمقاتلين محدّدين في المعارك.
اتّبعت إدارة سجن حلاوة أحياناً نهجاً قائماً على تقسيم المعتقلين تبعاً لتهمهم، فكانوا يؤخَذون بصورة جماعية إلى الطابق الثاني، كي يدخلوا تباعاً على المحقّقين، وبذلك ضمنت ألا يتناقلوا فيما بينهم أسئلة المحققين ومجريات الجلسات. مثال على ذلك ما جرى مع محمد علي الحمد، الذي اقتيد في اليوم الرابع لاعتقاله مع أشخاص آخرين كانوا متهمين بامتلاك شبكات إنترنت للمثول أمام القاضي.
يقول الشاهد إن المحقق كان يسأل الأسئلة ويجيب عنها بنفسه، من دون انتظار سماع كلامه. إذ كانت التهم “جاهزة ومبنيّة على أن أبناء عشيرة الشعيطات يريدون قتال تنظيم الدولة، ويستعملون شبكات الإنترنت لنشر إحداثيات ومواقع تتعلّق به مع جهات خارجية”.
أما التعذيب فلم يُخصص له السجانون قاعة مستقلّة، بل كان في معظم الأحيان يحصل أثناء جلسات التحقيق. استعمل السجانون خراطيم المياه والعصي وكابلات الكهرباء إلى جانب الضرب بالأيدي والأرجل، لضرب المساجين وتعذيبهم بغية انتزاع اعترافاتهم. كذلك اعتمدوا مع معتقلين محدّدين الفلقة، أو “تعليقة العقربة” عبر جمع وتقييد اليدين إلى الخلف بتمرير الأولى من وراء الكتف، والثانية من وراء الخصر، ثم تعليق المعتقل بهما.
ولم يذكر الشهود الأربعة الذين سُجّلت شهاداتهم حصول حالات إعدام في السجن، أو وفاة أي شخص تحت التعذيب.
تقريباً ذكر جميع المعتقلين السابقين الذين سجلنا شهادتهم، أنّ النظافة في قاعات الاعتقال الجماعية كانت أفضل مقارنة بالمنفردات، ذلك لأنهم تولّوا بأنفسهم تنظيفها بصورة جماعية من دون الحاجة إلى تقسيم المهمّات بينهم. لكن التنظيف بطبيعة الحال لم يكن كافياً، خصوصاً أن الماء كان مادة التنظيف شبه الوحيدة المتوفرة في السجن، وتحديداً بعد مرور سنوات على تأسيسه، فكان المعتقلون يسكبونه في الحمامات لمنع رائحتها من الانتشار في القاعة سيّئة التهوية. كما أن الفُرش والبطانيات التي استخدموها لم تُغسل أو تعُرّض لأشعة الشمس، فامتلأت نتيجة ذلك بالحشرات.
فيما يتعلق بالأمراض، تفشّت بين المعتقلين الحساسية الجلدية والزكام، إلى جانب حالات الإسهال. كما انتشر القمل والجرب في فترات محدّدة ما دفع العديد من المعتقلين إلى حلق شعورهم ولحاهم لتجنب الإصابة. أما الاستحمام فكان متاحاً، لكن عدم توفّر الصابون والماء الساخن جعل المعتقلين يستحمّون مرات قليلة، وبماءٍ بارد فقط.
أما عن طعام المعتقلين في سجن حلاوة، فقد شكلت المصادرات التي نهبها التنظيم من المحلات التجارية والأسواق الموجودة في بلدة أبو حمام المكوّن الأساسي للوجبات. إذ يذكر الشهود أنّ صناديق الطعام تكدّست في قسم الموزّع الرابط بين قاعتي الاعتقال والمنفردات. ولهذا يشبّه بشار رياض حمدان، أقدم المعتقلين، سجن حلاوة عند تواجده فيه بـ “مستودع غذاء”. تضمّنت المصادرات الخبز والمعلبات من سمك الطون والسردين والمرتديلا والحمص والفول، إضافة إلى المعكرونة والبطاطا والبيض والزيت.
لكن يبدو أن كميات الطعام اختلفت في العام 2016، فأحياناً، وفي أثناء مناوبات السجان “أبو عبيدة” قُدّم للمعتقلين لحم الدجاج كجزء من وجباتهم، أما “أبو دجانة” فكان يُقنن الحصص إلى النصف، حتى فيما يتعلق بالخبز. ويبدو أن الطعام لاحقاً بات شحيحاً أكثر واقتصر في تموز العام 2016 على الخبز والبطاطا المسلوقة التي تُقدّم للمعتقلين كل 24 ساعة، وفق شهادة جاسم المحمد. وقد كُلّف بعض المعتقلين مراراً بتحضير الطعام للباقين، وكان السجانون يأمرونهم بنقل الماء من قسم المنفردات في حال انقطاعها عن قاعات الاعتقال.
حوى الموزّع، إلى جانب المصادرات، جرة غاز أو سخاناً كهربائيّاً استُعمل أيضاً للطهو عند توفر الكهرباء، بالرغم من وجود مطبخين آخرين في الطابقين الأرضي والعلوي من المنزل. ويمكن تفسير ذلك بكون الموزع محصن بالأبواب الحديدية، ما يحول دون هروب المعتقلين المسؤولين عن عمليّات تحضير الطعام.
لا يبدو أن المعتقلين في سجن حلاوة مكثوا أوقاتاً طويلة فيه، إذ تراوحت فترات اعتقال الناجين الذين التقيناهم بين 11 و 25 يوماً، ما يجعله أقرب إلى مركز “تعزير” أو احتجاز مؤقت. وقد فُرض على بعض الشهود حضور دورات شرعية أو دفع غرامات مالية، بحسب التهمة أو الحكم الصادر بحقّهم.
تُرجّح التقديرات أن التنظيم استعمل المنزل كسجن لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، ولم يستطع سكان المنطقة، أو أصحاب المنزل تزويدنا بتاريخ دقيق لموعد إخلاء السجن وإقفاله، حتى إنّهم لم يستعيدوا عقارهم حتى عودتهم إلى دير الزور العام 2023.