في العام 2014، استولى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على منزل من طابقين في منطقة الحاوي ضمن مدينة الكشكية في ريف دير الزور، وحوّله سجناً اعتقل فيه بشكلٍ أساسيّ أبناء عشيرة الشعيطات من الرجال والأطفال الذكور، مِمّن تزيد أعمارهم عن 11 عاماً.
كان صاحب المنزل من أبناء الشعيطات ومن الذين شاركوا في قتال التنظيم، وقد فرّ من المنطقة بعد إصابته في إحدى المعارك، فصادرت “كتيبة البتار” المنزل واتّخذته مقراً لها، وأنشأت فيه سجناً من دون إحداث تعديلات كبيرة، نتيجة وقوع المنزل في منطقة مضطربة، كانت تشهد آنذاك معارك وقتالاً.
“متحف سجون داعش” أجرى دراسة موسّعة للسجن، مُعتمِداً على شهادات ثلاثة معتقلين سابقين فيه بين العامين 2014 و2015، كما حلّل المبنى معمارياً بعد توثيقه، ومقارنة ما تُرِك من آثار بشهادات حيّة للناجين منه. واستعان المتحف أيضاً، لإنجاز هذا التحقيق، بمصادر مفتوحة لجمع ومطابقة المعلومات حول “كتيبة البتار”، وتحركاتها في تلك الفترة.
يأتي هذا التحقيق في إطار العمل على تعزيز فهمِ ما جرى في مناطق الشعيطات، التي كان لأبنائها نصيب كبير من القتل بتبريرات شرعية مزعومة من داعش، وذلك بعد اتهامهم بـ “الردّة”، وهذا ما أدى في المحصّلة إلى ما يُعرف بـ “مجزرة الشعيطات”، التي درسها “متحف سجون داعش” بتفاصيلها، في بحث منشور بعنوان “توثيق الإبادة وإعادة ضبط السرديّة”.
شملت دراسة المجزرة عشرات المقابر الجماعيّة الموثّقة، والتي انتشرت غالباً بالقرب من سجون التنظيم، ومنها ما وجد في منطقة سجن “كتيبة البتار”. وتشير الشهادات التي جمعناها إلى أن إدارة السجن صفّت بالفعل أعداداً كبيرة من المعتقلين الذين تأكدت مشاركتهم في القتال، على مسافة 100 مترٍ من السجن، كما في مناطق أخرى مجاورة.
يقدّم التحقيق التالي تفاصيل عن السجن، ويحلّل نمطه المعماري وطريقة توظيفه في الاعتقال والتعذيب، كما يفصّل في شرح أساليب التحقيق والتعذيب، ويقدّم شهادات حيّة، تُسْهِم في تعزيز الأدلّة على عمليات القتل الجماعي في المنطقة. كما يفرد محوراً خاصّاً لشرح تركيبة “كتيبة البتار” التي عكست طبيعتها الوحشية في طرق القتل والتعذيب التي مارستها داخل هذا السجن وفي محيطه.
بدءاً من 10 آب/أغسطس العام 2014، عمَد تنظيم الدولة، بعد اشتداد معاركه مع أبناء الشعيطات، إلى تأسيس عدد كبير من السجون لاحتجازهم وغيرهم من المناوئين له. يقدر “متحف سجون داعش” عدد تلك السجون بما يقارب الـ 25 سجناً توزعت في قرى وبلدات: الهجين، الشعفة، البحرة، أبو حمام، الطيانة، البلعوم (الميادين)، حلاوة، والكشكية. إلى جانب السجون الموجودة على مقربة من آبار النفط، مثل سجن حقل العمر النفطيّ.
عُرف هذا السجن بين سكان الكشكية باسم سجن “كتيبة البتار” أو سجن الحاوي الأمنيّ، نسبة إلى موقعه في منطقة الحاوي على الأطراف الشمالية الشرقية للمدينة، عند ما يُعرف بطريق الحقل أو طريق المقبرة، وهو يبعد عن مركز الكشكية ما يقارب خمسة كيلومترات. وكلمة “حاوي” تعني في اللهجة الديريّة المحكيّة المنازل القريبة من البادية.
بعد سيطرة عناصر التنظيم على المنزل، خصّصوا الطابق الأول منه، ومساحته 450 متراً مربعاً، ليكون سجناً، وذلك لأن نوافذه مدعّمة أساساً بقضبان حديد، وخصّصوا الطابق الثاني لاستراحتهم وإقامتهم.
على غرار البنية المعمارية التقليدية لمنازل دير الزور، يتألف البيت من ديوان، وهو قاعة كبيرة خارجية يستقبل فيها صاحب المنزل ضيوفه من الرجال. عادة ما تكون هذه القاعة مستقلة عن غرف المنزل الداخلية كغرف النوم والمعيشة والمطبخ التي تشغلها العائلة. وفي حالة المنزل موضوع دراستنا، تألف الطابق الأرضي، إلى جانب الديوان، من ثلاث غرف، ومطبخ، وشرفة كبيرة تصل الديوان بسائر أقسام المنزل.
بالرغم من الخراب الذي أصاب المنزل، نتيجة المعارك التي رافقت الاستيلاء عليه وتأسيس السجن فيه، لم يبذل عناصر الكتيبة جهداً كبيراً في تهيئة المكان أو إجراء تعديلات عليه لتحصينه. حتى إن المعتقل السابق، حمدان علاوي عبد الله، الذي سجّل “متحف سجون داعش” شهادته في إطار دراسة السجن، ذكر أن قفل باب القاعة التي اعتقل فيها في شهر آب/أغسطس العام 2014 كان مخلوعاً. ويبدو أن عناصر التنظيم أطلقوا الرصاص عليه لفتحه عند اقتحامهم المنزل، واستبدلوه لاحقاً بالجنازير.
حافظ التنظيم على زجاج نوافذ مختلف القاعات، بما يناقض الإجراءات الأمنية التي اعتمدها في سجونٍ أخرى، لأن الزجاج قد يتحول إلى سلاح جارح عند كسره. لكن السجون التي أنشأها في ريف دير الزور جُهزت على عجل في مرحلة معارك وقتال، حتى إنّ بعض المعتقلين في سجونٍ أخرى ضمن منطقة الحاوي نفسها، ممن قابلهم المتحف، أكّدوا أنّهم تمكّنوا من الهرب عبر النوافذ.
تألف سجن “كتيبة البتار”، بصورته النهائية، من قاعتَيْ اعتقال وغرفة تعذيب وغرفة تحقيق شغلت الديوان، إلى جانب المطبخ الذي استُعمل كمستودع لتخزين الذخائر. أما الإجراءات المُتعلقة بتدوين بيانات المعتقلين واستلام ما معهم من أغراض، فتمت في الغالب على شرفة المنزل الكبيرة التي كان المُعتَقلون يُوَزّعون منها، حسب تهمهم، على قاعتَيْ الاعتقال.
قبل التوسّع في شرح آليات الاعتقال وطرق التعذيب التي اعتمدت في سجن “كتيبة البتار” (الحاوي)، لا بدّ من توضيح ماهية الكتيبة، ودورها في منطقة الشعيطات، وطبيعة مقاتليها، على اعتبار أن عناصرها هم من أداروا السجن موضوع الدراسة، لفترة من الزمن.
تُعرف “كتيبة البتار” كإحدى الكتائب التي انضوت تحت راية التنظيم ونفذت عمليات دموية لصالحه في بلدان مختلفة بدءاً من سوريا والعراق، مروراً بليبيا وتونس، ووصولاً إلى مدن أوروبية.
مقاتلو “البتار” معروفون بشراستهم واستعدادهم لتنفيذ عمليات انتحارية، ومن تسميات الكتيبة “أُباة الضّيم”، أو “كتيبة الحُفاة” لكون مقاتليها اعتادوا المشي أو حتى القتال في المعارك حفاة، إذ اعتبروا أن أرض الشام مقدسة، كما أرادوا بذلك تكريس صورتهم كمقاتلين متوحّشين قساة يتحمّلون الظروف الصعبة.
تُرجع بعض التقارير أصول أفراد هذه الكتيبة إلى مدينة درنة الليبية الجبلية، أو إلى بلدة بنينة[1] التي تُعَدّ جزءاً من مدينة بنغازي شمالي شرقي ليبيا. لكن الكتيبة ضمّت إلى جانب المقاتلين الليبيّين آخرين تونسيّين وأجانب.
ومع أنّ الغموض يلفّ ظروف نشأتها وطبيعة مهماتها، يُعتَقد أنّ تاريخ تأسيسها يعود إلى أواخر العام 2012 في سوريا، وقد أُعلن عنه في فيديو مصوّر، وجّه المتحدث فيه شكراً إلى جمعيّتَيْن خيريّتَيْن في ليبيا دعمَتا الكتيبة، هما “جمعية شهداء مصراتة” و”شهداء حمزة” [2].
تشير بعض التقارير، إلى أن نشاط الكتيبة تركز بدايةً في ريف اللاذقية شمال غربي سوريا. لكنها منذ أن بايعت داعش، في منتصف العام 2013، بدأت تتنقل بين المحافظات السورية بحسب المهمة التي توكل إليها. ولهذا نُظر إليها بمثابة وحدة عمليات خاصة (commandos)[3].
على صعيد دورها وتواجدها في ريف دير الزور، يُمكن توثيق ظهور الكتيبة بشكلٍ علنيّ وواضح في اليوم السادس للمعارك بينها وبين مقاتلي عشيرة الشعيطات في 5 آب/أغسطس العام 2014، إلى جانب مقاتلين قازاقيّين وأوزباك وشيشانيين. وكان لدخول العنصر الأجنبيّ في تلك المعارك دورٌ في قلب مسارها لصالح التنظيم، كما أن سمعة الكتيبة وما رافقها من أساطير تتحدّث عن قوتها وتوحشها جعلتها أداةً مهمة في حرب التنظيم النفسية ضد خصومه[4].
وفق تقديرات الباحثين، سبّبت معارك الشعيطات وما تخلّلها من مجازر بفعل الإفراط في قتل المدنيين، والتي كان لـ”كتيبة البتار” دورٌ أساسي فيها، صراعات داخلية ضمن تنظيم الدولة نفسه، الذي عمد لاحقاً إلى حلّ الكتيبة وإلحاق عناصرها بكتائب أخرى مثل “دابق” و”جند الخلافة”. ولهذا يُقدّر خروج “البتار” من دير الزور بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر العام 2015. وفي العام ذاته انتشرت تقارير تتحدث عن عودة عناصر الكتيبة إلى ليبيا وقتالهم في مدينة بنغازي[5]. ثُمّ نُسبَتْ إليهم عمليات مختلفة في مدينة كركوك العراقية، وبن قردان التونسية، وغيرهما، ممّا أثار الشكوك في حقيقة حلّها.
نفذ عناصر تنظيم الدولة بين العامَيَن 2014 و2017 حملات اعتقال واسعة ومستمرة بحق أبناء عشيرة الشعيطات، وكان انتماؤهم إليها في الكثير من الأحيان دافعاً كافياً لاعتقالهم حتى وإن كانوا مدنيين لم يشاركوا في أية معارك.
دارت المعارك بين الشعيطات ومقاتلي داعش على مدى 12 يوماً، في صيف العام 2014، وكانت قد بدأت بعد سلسلة من التجاذبات عندما فرض داعش السيطرة على كامل دير الزور، وواجه مقاومة كبيرة من أبناء العشيرة الذين رفضوا “الخلافة”. انتهت المعارك بتهجير قسم كبير من أبناء المنطقة وبالمجزرة التي ارتكبت لاحقاً بحق أبناء الشعيطات [6].
يروي حمدان علاوي عبد الله في شهادته أنّه اعتُقِل في شهر آب/أغسطس العام 2014، من قرية البحرة التي نزح إليها مع عائلته من الكشكية، إثر اشتداد المعارك بين التنظيم وأبناء العشيرة. بقي مُعتقَلاً حوالى أسبوع في سجن “البتار”. وقتها أَوْقف عناصر ليبيين تابعين للتنظيم حمدان بعدما لفتت جلابيته المقلّمة، انتباههم، كونها اللباس المُميز لرجال الشعيطات. ثمّ اعتُقل بعد الكشف عن هوّيته التي تحمل، في خانة مكان الولادة، اسم “الكشكية، الهجين”.
تقدم ملابسات اعتقال حمدان نموذجاً للآلية التي اعتمدها التنظيم في القبض على المدنيّين الذين نزحوا إلى قرى البوكمال على الحدود السوريّة- العراقيّة، في تلك الفترة. فقد كشف عناصر التنظيم مثلاً على كتف حمدان بحثاً عن آثار لحزام البارودة، كما وجهوا إليه أسئلة دينيّة لسبر معارفه في هذا المجال.
كذلك طرح عناصر التنظيم على الشاهد السؤال الأهم بالنسبة إليهم: “متى خرجت من قريتك؟”. في ذلك الوقت شكّلت”حادثة البلدية” التي وقعت بتاريخ 30 تموز/يوليو العام 2014، معياراً زمنياً، حدّد التنظيم على أساسه الرجال الذين لم يقاتلوه، مقارنةً بأولئك الذين بقوا في المنطقة وثاروا ضده.
ويمكن اختصار “حادثة البلدية” بأنها هجوم نفّذته مجموعة مؤلَّفة من حوالى 50 شاباً من المدنيين أو المقاتلين السابقين في الفصائل التابعة لعشيرة الشعيطات على مبنى بلدية الكشكية، الذي استعمله داعش آنذاك مقراً عسكريّاً. جاء الهجوم كرد فعل على نقض التنظيم لاتفاق أُقِرّ بتاريخ 8 تموز/يوليو 2014، وقضى بإعلان سيطرة داعش الكاملة على قرى الشعيطات وتسليم الفصائل أسلحتها، مقابل السماح للناس بترك قراها بصورة آمنة، أو البقاء فيها بعد مبايعة التنظيم.
تعهد داعش، وفق الاتفاق، بعدم إنشاء مراكز عسكرية ضمن القرى، أو تنفيذ مداهمات واعتقالات لأبناء المنطقة إلا بعلم وجهائها. لكنه سرعان ما نقض البند الأول بتحويله مبنى البلدية إلى مقر عسكري، ونقض البند الثاني أيضاً بقتل عناصره اثنين من أبناء بلدة أبو حمام وتمثيلهم بجثّة أحدهما. أثارت تلك الممارسات غضب أبناء العشيرة، ومهدت لهجومهم على مبنى بلدية الكشكيّة، والذي شكل شرارة المعارك الدامية.
يُفسّر ذلك ما توصّل إليه فريق التحقيقات عبر مقاطعة الشهادات، بأن الفِرق المسؤولة عن المداهمات والاعتقالات، ومن ضمنها إدارة سجن “كتيبة البتار”، اعتمدت فصل المعتقلين إلى فئتين، تشمل الأولى من تركوا قرى الشعيطات بعد حادثة البلدية، ومن المرجح أن التنظيم عمد إلى تصفية جزء كبير من هؤلاء ودفنهم في مقابر جماعية. أما الفئة الأخرى فتشمل من تركوها قبل الحادثة، وهؤلاء أجريت معهم تحقيقات إضافية، تتضمن سبر معارفها الدينية والتحقق مما إذا اشتركوا في نشاط مناوئ للتنظيم، بغرض اتخاذ قرار بتصفيتهم أو إطلاق سراحهم.
كذلك يمكن فهم قضية الأسئلة الدينية التي طُرحت على المعتقلين فور اعتقالهم في ضوء الفتوى الشهيرة التي أصدرها “أبو عبد الله الكويتي”، المسؤول الشرعي في التنظيم آنذاك، في ريف دير الزور الغربي، والتي قضت باعتبار أبناء عشيرة الشعيطات طائفة “مرتدة وكافرة” يتوجب قتل أفرادها. منحت تلك الفتوى غطاءً شرعياً لعمليات قتل واسعة النطاق بحق المدنيّين والمقاتلين على حدٍّ سواء.
على صعيد ما كان يحصل في أروقة سجن “كتيبة البتار”، وغيره من السجون الصغيرة المشابهة في قرى دير الزور، عكست استراتيجيات الاعتقال حالة الفوضى التي سببتها الفتوى، ومهَّدت لاحقاً لصراعات داخلية وخلافات بين القضاة والمحققين ممن رأوا أن بعض قيادات التنظيم و”كتيبة البتار” أفرطوا في قتل المدنيين.
وممّا يُلاحَظ في الشهادات التي جمعناها من معتقلين في السجن مطلع العام 2015، هو وجود اختلاف في جنسيّة أفراد الدوريّات الذين تولّوا عمليات المداهمة والاعتقال، من دون أن تختلف دوافع الاعتقال. فخلف أحمد المحمد (من مواليد العام 1989) ومروح أحمد الجاسم (من مواليد العام 1988)، اللذين اعتقلا بتهمة إسعاف جرحى الشعيطات في مشفى “خلف العليان”، ذكرا أن عناصر من التنظيم، مِمَّن تحدّثوا بلهجات ديريّة وحلبيّة وعراقيّة، داهموا منزليهما واقتادوهما منهما ليلاً.
اعتقل الشابان بعد حصول عناصر التنظيم على مقطع فيديو، يظهر فيه كلاهما في المستشفى، أثناء المعارك مع الشعيطات. أمضى خلف 23 يوماً في السجن، بينما وصلت مدة اعتقال مروّح إلى 35 يوماً، قضى جزءاً طويلاً منها في زنزانةٍ انفراديّة.
يقول الشاهد حمدان علاوي عبد الله إنّ السجانين في “البتّار”، وقت اعتقاله، كانوا في معظمهم من شمال إفريقيا، مثل ليبيا والمغرب وتونس، وكانوا من أعمار مختلفة، رجالاً وشباباً ومراهقين. من هؤلاء مقاتل اسمه “قصورة” وكان في الثالثة عشر من العمر، رافقه عددٌ من الفتيان، ما جعل حمدان يعتقد أن الكتيبة كانت مؤلفة في الأساس من أسرة واحدة تجمع بعض أفرادها صلة قربى.
يصف حمدان هؤلاء بـ “المقاتلين غير المنظَّمين” فهو لم يشعر بوجود إدارة منظَّمة للسجن، ذلك أن السجّانين كانوا يتبدلون دائماً، كما أن كثيرين منهم اقتحموا قاعات الاعتقال من دون سابق إنذار لضرب المعتقلين بالبنادق والعصي وخراطيم المياه، كشكل من أشكال الانتقام لخسارتهم أصدقائهم أو أقربائهم في المعارك التي كانت تجري مع الشعيطات بالتزامن مع تأسيس هذا السجن .
في شهادته يُقدم حمدان الوصف التالي لأفراد الكتيبة: “كانوا يمارسون طقوساً غريبة ويُطلقون صرخات عالية، يرتدون ثياباً من الكتان ويركبون الدراجات النارية التي استولوا عليها في المنطقة. كانوا همجيّين وكلامهم غريب وغير مفهوم بالنسبة إلينا”.
أما المحقِّق الذي تولى استجواب المعتقلين، فكانت لهجته “شامية” وكان في الثلاثينات من عمره. وقد لُقب أمير الجماعة المسؤول عن مقاتلي الكتيبة بـ”أبو عبد الله الليبي”.
في المقابل، عكست الشهادات التي جمعناها من المعتقلين العام 2015 تغيُّرات في إدارة السجن، ومن المرجَّح أن الكتيبة في هذا الوقت كانت قد سلمته لإدارة أخرى، أو أن حضورها تضاءل على صعيد المهامّ الإدارية فيه.
يقول الشاهد خلف أحمد الحمد إن إدارة السجن تألفت في العام 2015 من السجّانين، ومسؤولي اللوجستيات والمحقّقين، ويعتقد أن معظم مسؤولي اللوجستيات كانوا من محافظة حلب في سوريا، أما السجانين من أبناء المنطقة، فتولّوا عمليات المداهمة، وذلك لمعرفتهم العميقة بجغرافيا المكان، في حين كان المحقِّقون عراقيّو الجنسيّة. يذكر خلف اسم “أبو قريب البانياسي” بوصفه المسؤول عن السجن في تلك الفترة.
أما مروّح الجاسم، الذي اعتقل في نفس الفترة، فيؤكّد وجود عناصر ليبيّين وتوانسة في السجن في خلال تواجده هناك. ويمكن تفسير الاختلاف بين شهادتي مروح وخلف حول إدارة السجن بكون مروح اعتقل في “البتار” ضمن منفردة معزولة عن الزنازين، إلى جانب التغيير المستمرّ في مناوبات السجانين ومهامِّهم.
وفق شهادة حمدان علاوي عبد الله، فإن “المحقق ذا اللهجة الشامية”، كرّر عند التحقيق معه، طرح الأسئلة نفسها التي وُجِّهت إليه عند اعتقاله، وركّز أيضاً ليحدّد بدقّة موعِد خروجه من قُرى الشعيطات. كذلك حاول الإيقاع بالمعتقَلين عموماً للوشاية بشبان آخرين قاتلوا في المعارك، إلى جانب استجوابهم عمّا يمتلكونه من أسلحة وأماكن تخبئتها المُحتملة.
تماشت هذه الأسئلة مع التطورات الميدانية، والمعارك التي كانت تدور في ذلك الوقت بين التنظيم وأبناء العشيرة، فالصراع للسيطرة على سلاح أبناء الشعيطات، وتحديداً المُخبّأ منه، كان قضيّة محورية بالنسبة إلى داعش في حينه.
أما التعذيب المترافق مع التحقيق فَيصفهُ حمدان بالعشوائي، فإذا ما أخطأ أحد المعتقلين مثلاً في الإجابة عن سؤال ديني، كان يُضرب بأخمص البارودة أو بالكابلات.
وعن التصفيات والإعدامات الجماعيّة يذكر حمدان أنه شهد حادثة اقتياد ما يقارب 40 شخصاً خارج حدود السجن، ثم سمع ومن معه أصوات إطلاق رصاص. لاحقاً وبعد خروجه من السجن إلى بلدة البحرة، ميّز عدداً من القتلى على بعد ما يقارب 100 مترٍ من السجن، وهو يُرجّح بأن هؤلاء معتقلون كانوا معه في “سجن البتّار”.
تظهر في شهادتَيْ كل من مروّح الجاسم وخَلف المحمد، المعتقلَين في العام 2015، تباينات في ما خصّ مجريات التحقيق والتعذيب، مع أنّه وُجّهت إلى الشابين اللذين اتهما بإسعاف مقاتلي الشعيطات أسئلة متقاربة حول أسباب تواجدهما في المستشفى وطبيعة عملهما، وعمّا إذا كانا قد شاركا في المعارك. ومع أنّ الاثنين في الحقيقة تطوعا لإسعاف الجرحى، لكنهما أنكرا ذلك، وتذرّعا بوجودهما في المستشفى لإسعاف أقاربهما.
كذلك، يذكر مروّح أن امتلاكه بعض المعارف الدينية جعل المحقّقين يتشاورون فيما بينهم حول ما إن كان يجب عليهم تصفيته أو الإبقاء عليه حيّاً. أخيراً اتُخذ القرار بتركه في السجن لبعض الوقت لحين تقرير مصيره.
كما خُصصت في العام 2015 قاعة للتعذيب داخل السجن، وكان الأسلوب الأكثر شيوعاً هو تعليق المعتقلين وجلدهم، وفق ما يُعرف بـ “تعليقة العقربة”، وهي تقضي بتقييد يديّ المعتقل إلى الخلف ثم تعليقه منهما، فتمرر اليد الأولى من وراء الكتف، والثانية من وراء الخصر، ثم يرفع جسم المعتقل متراً عن الأرض.
يذكر المعتقلون الذين خضعوا لهذا النوع من التعذيب أن ثقل الجسم كان يرتكز بأكمله على الأكتاف ما يلحق بها أذًى شديداً، وفي العادة كان المعتقلون يعجزون عن تحريك أيديهم عدة ساعات بعدها.
الشاهد مروّح الجاسم عاش في السجن تجربة صادمة، وذلك عندما اُقتيد من المنفردة إلى الخارج، وأُخِذ إلى حفرة مليئة بالدماء. هناك أوحى له العناصر بأنه سيُقتَل، لكن السجّان، وبعدما جرح رقبته، أعاده مرة أخرى إلى المهجع. أما خلف فيذكر أنه شَهد نقل سجناء إلى جهات مجهولة في فترة تواجده في السجن.
أخيراً، وتمهيداً لخروجهما، عُرض كل من مروّح وخلف، كلاً على حدة، أمام القاضي الذي حكم بإطلاق سراحهما متذرعاً بعدم وجود أدلة كافية تدينهما. كما أن كلا المعتقلين تلقّيا معاملة مُغلفة بلطف مصطنع، أثناء إيصالهما إلى منازلهما بعد إطلاق سراحهما.
يمكن تفسير هذا اللين غير المتوقع في محاولات بعض الأطراف داخل التنظيم احتواء الآثار التي خلفتها المجزرة بحق العشيرة، ما يعكس جوّ الصراع الداخلي الذي حدث في تلك الفترة حول هذه القضية.
عاش المعتقلون في سجن “كتيبة البتار” أيامهم مترقبين لحظة موتهم، ومع أنّ الحالة مشتركة بين من اعتقلهم داعش في سوريا والعراق على حدٍّ سواء، لكن الأمر كان مضاعفاً في حالة أبناء عشيرة الشعيطات. فالمعتقلون في “البتار” في العام 2014 مثلاً، شاهدوا على الطرقات أثناء اقتيادهم نحو السجن جثث الضحايا التي خلّفها التنظيم من أقربائهم وأهالي منطقتهم. أيضاً زادت معرفتهم بالتوتر الحاصل بين عشيرتهم وتنظيم الدولة من قلقهم وقلّصت أملهم في النجاة.
يقول حمدان علاوي عبد الله إن عدد المعتقلين أثناء وجوده في السجن العام 2014، وصل إلى 60 شخصاً، ويذكر قصة أحدهم وهو طفل في الثالثة عشر من عمره من بلدة هجين ذهب يوماً لشراء الخبز لأسرته، فاحتجزه التنظيم ضمن حملة اعتقل فيها 101 رجلاً دفعة واحدة. وبالرغم من صغر سنّه تعرض الفتى لتعذيب شديد من السجانين الذين لم يصدّقوا أنه كان ذاهباً فعلاً لشراء الخبز، وأصروا أنه كان يلتف عليهم من الصحراء لقتالهم مع آخرين من أبناء الشعيطات.
من ناحية أخرى، وعند مقارنة الشهادات التي جمعها “متحف سجون داعش” عن الحياة في السجن في العامين 2014 و2015، يُلاحظ وجود اختلاف في نمط الأنشطة والقوانين المفروضة على المعتقلين في المرحلتين.
ففي العام 2014 كانت أعمال السخرة المفروضة على المعتقلين من عناصر “كتيبة البتار” سمة أساسيّة ليوميّات السجن. حمدان علاوي عبد الله، أجبر ومن معه على نقل المياه من آبار الماء القريبة بسبب انقطاع الماء عن السجن، كذلك أجبروا على الذهاب إلى الأراضي القريبة لرعي وسقاية المواشي التي صادرها التنظيم من أبناء القرى بعد نزوحهم.
أُجبر المعتقلون في ذلك الوقت أيضاً على حمل ونقل الذخائر إلى المستودع المخصَّص لها داخل السجن، إلى جانب تصليح سيارات رجال التنظيم وآلياتهم. يشير حمدان إلى أنه ومن معه لم يفكروا أبداً في الهرب أثناء تواجدهم في الخارج لأعمال السخرة، وذلك لأن منطقة السجن كانت نائية وخاضعة بالكامل لسيطرة التنظيم. كما حالت مشاهد الجثث المرمية في الطرقات حول السجن دون تفكير المعتقلين في تصوّر إمكانيّات الهرب المتاحة، وذلك على أمل أن يشكّل لهم بقاؤهم والتزامهم بتعليمات السجانين فرصة للنجاة، وإن كانت ضئيلة.
يقول حمدان أيضاً إن الكثير من المعتقلين معه كانوا صغاراً في السن، وليست لهم معارف دينية كافية، لذلك عمد وشاب آخر حاصل على شهادة جامعية، إلى تلقين الشبّان الأصغر سنّاً بعض المعلومات الدينيّة الأساسية ليجنّبوهم التعذيب أو القتل. لكن، ونتيجة اعتبار أبناء الشعيطات طائفة “مرتدّة” لم يُجبر المعتقلون على الصلاة، ولم يُسمح لهم بالذهاب للوضوء، بخلاف سجون أخرى للتنظيم في مناطق مختلفة في سوريا والعراق. فكان معتقلو “البتار” يتيمّمون بالتراب للصلاة.
وعلى صعيد النظافة، لجأ المعتقلون إلى استغلال وقت تواجدهم بجانب الآبار لسقاية المواشي وحمل الماء من أجل غسل ثيابهم والاستحمام، بينما اقتصر طعامهم على الخبز الجاف وبقايا الأطعمة التي تفيض عن حاجة طعام عناصر التنظيم.
أمّا في العام 2015، فلم يعد خلف أحمد المحمد ومروّح الجاسم يُجبران على أعمال السُخرة. ذاك أنّ عدد السجناء في ذلك الوقت قد تضاءل على ما يبدو، إذ يقدر خلف عدد المعتقلين وقت وجوده بعشرة، ويقول إن معظمهم قضوا وقتهم في النوم، وكان كلّ منهم ساهماً في الغالب ومشغولاً بما لديه من مخاوف وهموم. كما أنهم حرموا من أي فرصة للاستحمام، ولهذا انتشر القمل بينهم.
بدأت العودة الفعلية لأهالي الكشكية إلى مدينتهم، بتاريخ 16 كانون الأول العام 2014، بعد نزوحهم بشكل جماعي أثناء المعارك مع داعش. وآنذاك أبقت “كتيبة البتار” سيطرتها على المنزل الذي كان قد غادر صاحبه دير الزور لتلقي العلاج.
اكتشفت في الكشكية وحدها مجموعة من المقابر الجماعية، جاورت في الغالب مواقع سجون التنظيم، ومنها “سجن البتار”. من بين الوثائق التي يحفظها متحف “سجون داعش” صور لضحايا إحدى تلك المقابر، عُثر على جثامينهم مكبلين ومعصوبي الأعين، ما يرجح قتلهم فوراً عند اعتقالهم.
وفق المعلومات التي جمعناها ظلّ السجن، كما غيره من سجون داعش في المدينة، مصدراً للخوف حتى خروج التنظيم من مناطق الشعيطات في 25 كانون الثاني/يناير العام 2018، وقد استعاده أصحابه لاحقاً وحولوه مؤخراً إلى مخزنٍ للقمح والحبوب.