بحث لـ : ساشا العلو وأيمن علاو
مثَّل الحدث السوري بتداعياته العسكرية والإنسانية الممتدة منذ 13 عاماً، أحد أكثر الصراعات المعاصرة التي شهدت عنفاً ممنهجاً، تجاوز بطبيعته وسياقاته مُحدِّدات وقواعد القانون الدولي الإنساني، وقاد إلى انتهاكات واسعة النطاق، سرعان ما تعدَّت الحالات الفردية إلى مستوى المجازر الجماعية وجرائم الحرب. وقد ساهمت في تحفيزها عوامل ومعطيات عدة، على رأسها طبيعة الصراع المُركَّب وطول أمده، إضافة إلى تعدد أطرافه ذات المصالح المتضاربة، وتشابك ظروفه السياسية والعسكرية والأمنية، التي تحوَّلت في خلالها الدولة المركزية إلى طرف من أطراف العُنف، وأحد أبرز الراعين له.
وضمن ذاك السياق العنفي، وما أنتجهُ من خارطة مجازر غطَّت أغلب الجغرافية السورية، مثَّلت المجزرة التي ارتكبها تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بحق عشيرة الشعيطات في محافظة دير الزور خلال شهر آب/أغسطس من العام 2014، أحدَ أبرز أحداث العنف الجماعيّ في سوريا، وذلك لِعدَّة أسباب، ومنها:
وبقدر ما ترتبط خصوصية مجزرة الشعيطات بظروفها الموضوعية والجهة المُنفِّذة وأعداد ضحاياها، فهي لا تنفصل أيضاً عن سياق العُنف العام الذي تمت فيه، سواء على مستوى دير الزور أم على مستوى سوريا، والذي مثَّل إطاراً عاماً وفَّرَ المقدمات ورسم بشكل أو بآخر النتائج. فقد شهدت محافظة دير الزور مع بداية العام 2014 صعوداً سريعاً لـ”تنظيم الدولة”، سرعان ما أدى إلى صدامات عنيفة مع فصائل المعارضة العسكرية بمختلف تصنيفاتها الأيديولوجية، وأفضى إلى معارك طاحنة استمرت أكثر من ستة أشهر بين الطرفين، قبل أن تنتهي بسيطرة “داعش” على أغلب المحافظة.
لم تكن الشعيطات بعيدة عن ذلك السياق، سواء كبُنية مدنية أو فصائل عسكرية. فقد عانى المدنيون كأغلب سكان محافظتهم من آثار هذا الصراع العسكري، كما كانت فصائل الشعيطات أولى المجموعات العسكرية المنخرطة فيه، بينما كانت بلدات الشعيطات (أبو حمام، الكشكية، غرانيج) من آخر المناطق التي أخضعها “داعش” في المحافظة، ليختتم سيطرته بمجزرة طوَت معها أحداث مرحلة عسكرية كاملة، مُخلِّفة آثاراً إنسانية أبعد من ذلك بكثير، ولا تزال حاضرة على مستوى ذوي الضحايا وأبناء العشيرة، والذاكرة الجمعية السورية.
وبالرغم من مرور أكثر من عشرة أعوام على هذا الحدث، وما بُذِل من جهود حقوقية وإعلامية في تغطيته، فإنّ العديد من جوانبه لا يزال مُلتبساً، خصوصاً على مستوى التوثيق والسردية. إذ لم تحظَ المجزرة بالدرجة الكافية من الدراسة والتوثيق المنهجي، سواء على مستوى شرارة الحدث ذاته وملابساته وسياقه السابق واللاحق، أو على مستوى رسم خطّ زمنيّ واضح للمجزرة مدعوم بالوثائق الكافية والتواريخ والشهادات. أضِف إلى ذلك مستوى البيانات والأرقام المتعلقة بالضحايا، والتي ما تزال إشكاليّة في ظل تعدّدها وتفاوتها بين جهة وأخرى. كما لم يسبق التعمّق في دراسة تبعات الحدث، وما طرأ من أنماط ومراحل مختلفة للعنف، تمثَّلت بأدوات عقابية شملت التهجير القسريّ واستمرار الاعتقالات والقتل بتهم متعددة، إضافة إلى جولات المفاوضات المكوكية التي خاضها وجهاء الشعيطات للسماح بعودة المهجّرين وفق شروط معيَّنة، شابهت حالة طوارئ عاشتها المنطقة لسنوات.
في هذا الإطار، يأتي البحث في المجزرة كمحاولة لإعادة توثيق وتشكيل الحدث وضبط سرديته من جهة، وتوفير أساسٍ معرفي للبناء عليه في مسارات مختلفة من جهة أخرى، خصوصاً المسارات الحقوقية التي لا تزال مُعلَّقة ومفتوحة، وذلك بسبب وجود أعداد كبيرة من المفقودين، وتواصل اكتشاف المقابر الجماعية، ناهيك عن تورُّط عدد كبير في هذا الحدث الذي يُشكِّل جزءاً من مسار عدالة طويل. وهذا ما يسهم في تأمين أرضية معرفية قد يُبنى عليها في استكمال دراسة وفهم سلوك “تنظيم الدولة” في سوريا، والتفاعلات المحلية الاجتماعية-العسكرية إبّان سيطرته.
وعليه، تسعى هذه الدراسة إلى مراجعة وتوثيق السياق السياسي والعسكري لسيطرة “تنظيم الدولة” على محافظة دير الزور بداية، وتموضع فصائل الشعيطات ضمن خارطة الصراع العسكري. وصولاً إلى إخضاع المحافظة وبلدات الشعيطات بالذات، وما ترتب عن ذلك من اتفاق أول يضمن سيطرة “داعش”. ثم تنتقل الدراسة إلى البحث في الحدث الأساسي الذي انطلق بنقض الاتفاق في 30 تموز/يوليو العام 2014، وأفضى إلى اندلاع معركة مع “داعش” استمرّت 12 يوماً وقادت بشكل أو بآخر إلى ارتكاب المجزرة. وقد تمّ توثيق أحداث المعركة وتتبّع تفاصيلها يوماً بيوم، خصوصاً وأنّ المجزرة بدأت عمليّاً في خلالها، وبلغت الذروة في نهايتها.
تركّز الدراسة على إعادة ضبط وتشكيل سرديّة الحدث، عبر تتبّع الخطّ الزمني للمجزرة وأحداثها التفصيليّة، بما فيها عمليات القتل الجماعي والاعتقالات العشوائية والتهجير وسرقة ممتلكات السكان ومنازلهم وتفجير بعضها، مروراً بالمفاوضات التي خاضها وجهاء المنطقة في محاولة لإيقاف المجزرة وعودة المهجَّرين، وصولاً إلى مرحلة ما بعد العودة وما تخللها من إجراءات عقابية استمرّت معها جرائم القتل وإن اختلفت وتيرته، وإلى عثور السكان على المقابر الجماعية. وفي السياق تقدّم هذه الدراسة مسحاً أوليَّاً للمقابر الجماعية التي اكتَشفها السكان بين نهاية العام 2014 وحتى تاريخ اكتشاف أحدث موقع في العام 2020. وتنتقل أخيراً إلى تحليل الأرقام والبيانات الخاصة بالمجزرة، وذلك وفقاً لما هو متوفِّر لدى “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات”، والتي أجرت في العام 2020 مسحاً لأعداد ضحايا العشيرة الذين سقطوا على يد “داعش”، يعد الأوسع إلى اليوم.
ولتحقيق أهدافها في مختلف مراحلها، اعتمدت الدراسة مصادر بيانات متنوِّعة، ثانوية وأوليّة، وعلى رأسها المقابلات الميدانية مع ذوي الضحايا والمفقودين، ومع المعتقلين والمقاتلين السابقين، ومع وجهاء العشيرة. إذ أجرى “متحف سجون داعش” وعلى مدار سنوات عدداً كبيراً من المقابلات الميدانيّة مع عيّنات عدة، تنتمي إلى شرائح مختلفة ذات صلة بالحدث. جميع المقابلات سُجّلت في بلدات عشيرة الشعيطات، وراعت قدر الإمكان التوزُّع المتوازن للعيّنة وفقاً للمناطق الجغرافية (أبو حمام، الكشكية، غرانيج). وهي موزَّعة على الشكل التالي:
وتجدر الإشارة، إلى أن جميع المقابلات التي أُجريت مع المصادر السابقة، بعد شرح الهدف الأساسي من الدراسة لأصحابها وموافقتهم عليها، وهي مُصنَّفة ومحفوظة بالأسماء في أرشيف “متحف سجون داعش” إضافة إلى الوثائق. وقد حُجِب أغلب أسماء المصادر بناء على طلب أصحابها لاعتبارات أمنية، كون المنطقة لا تزال تشهد حتى الآن نشاطاً لبعض خلايا “داعش”.
كان العام 2014 مفصلياً في سياق تطوّر الأحداث والصراع في سورية، خصوصاً مع صعود تنظيم الدولة وتمدّده في بعض المناطق كالرقة والحسكة وريف حلب الشرقي وإدلب. والذي أربك الحسابات السياسية والعسكرية لمختلف الأطراف المحليّة والإقليميّة والدوليّة، وفرض بشكل سريع واقعاً جديداً لخارطة الصراع العسكري وتحديداً في دير الزور. وكانت نواة التنظيم في المحافظة قد انبثقت عن “جبهة النصرة”، التي دخلتها في أوائل العام 2012، وبقيت تقاتل كأفراد ومجموعات متفرقة بشكل غير علني، حتى أعلنَت عن نفسها كفصيل مستقل منتصف العام 2012، وسرعان ما اتخذت موقعاً مهماً على الخارطة الفصائلية في المحافظة وعموم سوريا([1]).
ظهرت المجموعة الأولى لـ”داعش” في دير الزور، بعد الإعلان عن تأسيس “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بتاريخ 9 نيسان/أبريل العام 2013([2])، وهو الإعلان الذي تسبّب بانقسام في “جبهة النصرة” التي من المفترض أنها تمثل فرعاً لـ”تنظيم الدولة الإسلامية” في سوريا بقيادة، أبو محمد الجولاني. إلا أنّ هذا الأخير رفض قرار التبعية للجسم الجديد تحت قيادة أبو بكر البغدادي، ما أدّى إلى انقسامات في صفوف “النصرة” وانزياح بعض عناصرها (أفراد، مجموعات) إلى تنظيم “داعش”، فظهر عدد محدود من العناصر الموالين للتنظيم في ريف دير الزور، وبقي خلافهم مع الجولاني وأنصاره خلافاً “فكرياً-تنظيمياً” بداية، ولم يتطوّر إلى مواجهة مسلَّحة كما حدث في بعض المناطق السورية، بل تجمع أنصار البغدادي في بعض القرى، وأبرزها قريتي خشام وجديد عكيدات في ريف دير الزور الشرقي، واتَّخذوا فيها مقرّات رئيسية([3]).
لم يكن صعود مجموعات “داعش” أمراً سهلاً في دير الزور، خصوصاً وسط خارطة عسكرية-فصائلية مُعقّدة، نجد فيها من جهة فصائل “الجيش الحرّ” التي تأسّست من مجموعات ضباط منشقين إلى جانب مدنيّين حملوا السلاح، ومن جهة أخرى فصائل إسلامية “جهادية” محلية منافسة لـالتنظيم، على رأسها “أحرار الشام” و”جبهة النصرة”. وكلّها مقابل قوات النظام التي، وبالرغم من طردها مبكراً من أغلب أرياف المحافظة، بقيت تسيطر على أجزاء من المدينة ومواقع عسكرية استراتيجية في ريفها، مثل مطار دير الزور العسكريّ.
ضمن تلك الخارطة المُعقَّدة، وقَع الصدام الأول لمجموعات “داعش” في دير الزور مع ألوية “أحفاد الرسول”، وهي عبارة عن مجموعة كتائب عسكرية محلية مدعومة من هيئة الأركان التابعة لـ “الجيش الحر”، بقيادة الضابط المنشق، ماهر النعيمي. وكانت شرارة الصدام بدأت في محافظة الرقة لتمتد سريعاً إلى دير الزور، حيث اتهَمَ “تنظيم الدولة” مجموعات “أحفاد الرسول” بـ”تلقّي دعم من الغرب لمحاربة التنظيمات الإسلاميّة”، فهاجم في منتصف أيلول/سبتمبر 2013 مقرَّاتها واستولى على أغلب أسلحتها واعتقل عدداً من قياداتها وعناصرها([4]). واستمر في ملاحقة عناصرها حتى نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر العام 2013، الأمر الذي ساهم من جهة في انتعاش مجموعات “داعش” عسكرياً، ومن جهة أخرى في التأثير على مسار العمل العسكري ضد قوات النظام في المحافظة، خصوصاً على جبهة مطار دير الزور([5]). وقد أفضى هذا في النهاية إلى حلّ التشكيل الذي بات يُعرَف في أدبيات “داعش” وإعلامها الحربي باسم “أحفاد إبليس”، كما أدّى لاحقاً إلى مبايعة بعض قياداته الميدانية لـ”داعش”، وأبرزهم أبو سيف الشعيطي، وصدام الجمل، اللذان سيبرز اسماهما كشخصياتٍ فاعلة، سواء في السيطرة على المحافظة أو في قضية الشعيطات([6]).
بعد “أحفاد الرسول”، كان الصدام الثاني لـ”داعش” مع “أحرار الشام” والفصائل المتحالفة معها، والذي بدأ بوتيرة متفاوتة في عموم مناطق الانتشار المشترك للفصيلين في سوريا، لتندلع شرارته في 2 كانون الأول/ديسمبر العام 2013 في ريف دير الزور([7]). وقد حمل هذا الصراع أبعاداً مُركَّبة، فإضافة إلى الخلاف العقدي بين فصيلين جهاديين، والتنافس على السيطرة والنفوذ، عكَسَ هذا الصراع انقساماً عشائرياً داخل المنطقة، خصوصاً وسط سعي تلك الفصائل إلى استقطاب قيادات من العشائر المحلية القوية، ما أدّى إلى حالة انقسام واضحة. إذ كان عامر الرفدان، القيادي في “تنظيم الدولة” والمنشق عن “جبهة النصرة”([8])، وكمال الرجا الملقب بـ “أبو المنتصر البريهة” نسبة إلى مسقط رأسه([9])، أبرز القيادات التي شاركت في هذا الصراع المُسلَّح. في حين كان “أبو إسحق” قائد “لواء الأحواز”، وهو أيضاً من البريهة، من أبرز الشخصيات التي قاتلت إلى جانب “أحرار الشام” ضد “داعش”، مع أنه ينتمي إلى نفس العشيرة التي ينتمي إليها الرفدان والرجا (عشيرة البكيّر- العقيدات).
وفي ذروة الصراع واحتدام المواجهة بين “تنظيم الدولة” و”أحرار الشام”، التزمت “جبهة النصرة” الحياد قرابة الشهر، وهو ما أدّى إلى استنزاف القدرات العسكرية لـ”الأحرار”. واستمر حياد “النصرة”، الذي استفز جميع فصائل المنطقة، حتى بداية شباط العام 2014([10])عندما نفَّذَ “تنظيم الدولة” هجوماً على مقرّاتها في مدينة الشدادي النفطية وحقول غاز الجبسة وتل حميس التابعة لمحافظة الحسكة، بالتزامن مع تنفيذ هجوم بقيادة عامر الرفدان على حقلي “كونيكو” و”الجفرة” وسيطرته عليهما بتاريخ 2 شباط/فبراير 2014([11]). فكان أول دخول لـ”النصرة” عسكرياً على خط الصراع بشكل علني مع عناصر “داعش”، ما دفع العديد من الفصائل في تلك الفترة إلى الاعتقاد بأن موارد الطاقة (الغاز والنفط) هي المُحرِّك الأساسي لدخولها.
انضمت فصائل عسكرية أخرى إلى “النصرة” و”الأحرار” في الصراع مع “داعش”، خصوصاً بعد تصاعد خطره وقصفه أغلب تلك الفصائل أثناء حصارها مطار دير الزور العسكري، في منتصف كانون الثاني/يناير العام 2014، واستيلائه على أسلحة ثقيلة قادمة من حلب بهدف دعم معركة تحرير المطار([12]). فتشكَّل تحالف من مجموعة فصائل وكتائب بهدف مواجهة التنظيم، أبرزها: “النصرة” و”أحرار الشام”، و”لواء الأحواز” (البريهة) و”لواء مؤتة” (شحيل)، و”بشائر النصر” (العشارة)، وكتائب الشعيطات ومنها لواء “جعفر الطيار” وفصائل من غرانيج، إضافة إلى فصائل “الجيش الحرّ” التابعة للمجلس العسكري في موحسن وغيرها، وأفراد من فصائل مختلفة تطوَّعت لقتال التنظيم ضمن مناطق تمركزه تلك الفترة.
ومع بداية شباط/فبراير 2014، شنَّ هذا التحالف معارك عنيفة ضد مواقع “داعش” في ريف المحافظة، أدَّت إلى استعادة مختلف المناطق التي سيطر عليها، بما فيها المواقع النفطية، وانتهت بتفجير منزل والي التنظيم وقائد الهجوم، عامر الرفدان، وملاحقته وما تبقى من عناصره إلى جنوب الحسكة([13]). وقد شكّلت تلك المواجهات، الصدام الأول بين فصائل الشعيطات وتنظيم “داعش”.
نجح تحالف الفصائل في 11 و 12 شباط/فبراير العام 2014، وبعد معارك عنيفة استمرّت أياماً، في طرد عناصر “داعش” من أغلب محافظة دير الزور وملاحقة ما تبقى منهم في قرى الخابور في اتجاه ريف الحسكة الجنوبي([14])، ولم يبقَ للتنظيم إلا منطقة “مناجم الملح” في قرية التبني ضمن ريف دير الزور الغربي، والتي استعصت على الفصائل لأسباب جغرافية وعسكرية([15]). وانتقلت المعارك بعد 12 شباط إلى “مركدة” التابعة لريف الحسكة الجنوبي، حيث دارت معارك طاحنة في تلك البلدة امتدت قرابة شهرين، قُتل وجُرح فيها المئات من الطرفين، وقضى فيها ما يقارب 80 من مدينة شحيل فقط، أبرز معاقل النصرة في دير الزور في تلك الفترة، إضافة إلى العشرات من سائر فصائل وقرى دير الزور. إذ استمرت المعارك فيها بين كرٍّ وفر حتى أواسط شهر نيسان/أبريل العام 2014، استعمل في خلالها الطرفان الأسلحة الثقيلة، واستقدَمت “النصرة” تعزيزات من حلب وإدلب وحمص، كما خصَّصَت الفصائل موارد أغلب الحقول النفطية في دير الزور لدعم وتذخير المعركة ضد “داعش”([16]).
وفي معارك مركدة الحاسمة، تفرَّغ الطرفان للعمل الأمني، الذي باتت دير الزور ساحته الأبرز بعد طرد “داعش” منها. فلم يكَد يمضي أسبوع على انكفاء التنظيم إلى جنوب الحسكة، حتى بدأ بإرسال مفخخات إلى ريف دير الزور، وقاد ذلك إلى مجموعة من الحوادث، أبرزها تفجير مفخخة في شحيل أودت بحياة العشرات([17]). في المقابل تفرَّغت “النصرة” وبعض الفصائل في دير الزور لملاحقة العناصر المشكوك في ولائهم أو تعاملهم مع “داعش”. وكانت قد بدأت بتلك الخطوات منذ أوائل العام 2013، فاتهمت عدة قيادات بـ”التآمر عليها”، سواء لصالح التنظيم أو “لصالح الغرب الداعم لمحاربة الفصائل الإسلامية”، وكان أبرزهم في تلك الفترة، صدام الجمل، أحد القياديين الميدانيين السابقين في “هيئة الأركان- الجيش الحر” ضمن المنطقة الشرقية، والذي اختفى من مدينة البوكمال في منتصف العام 2013 بعد ضغط “النصرة” وتفجيرها منزله واغتيال أخيه، ليظهر نهاية العام في مقطع مصوَّر يعلن بيعته لـ”داعش”، ثم ما لبث أن ظهر الجمل في معارك مركدة، حيث التحق بعامر الرفدان وعناصر التنظيم المدحورين([18]).
بعد مبايعته “داعش” عُيِّنَ الجمل في منصب أمني في ولاية “الفرات” التابعة للعراق، كما عُيِّن قائداً عسكريّاً في معارك مركدة، وكُلِّف بإعداد خطة عسكريّة لهجوم مباغت على مدينته، البوكمال. ولم يمضِ شهر على تكليفه حتى اقتحم المدينة بشكل مفاجئ في فجر 11 نيسان/أبريل العام 2014، في هجومٍ سُمِّي “غزوة تحرير الأسرى” واستهدف مقرّ “الهيئة الشرعية” التابع لـ”النصرة” في المدينة، وأدّى إلى مقتل من في داخله([19]).
لم تكن كتائب المعارضة والفصائل الإسلامية تتوقّع اقتحام “داعش” البوكمال، اعتقاداً منها باختلال موازين القوى وهشاشة التنظيم بعد هزيمته السابقة، وقد سبّب الهجوم في بدايته صدمة سرعان ما جرى امتصاصها في نفس اليوم، ليبدأ هجوم مضاد حُسِمَ فوراً وانتهى بمحاصرة وهزيمة عناصر “داعش”. فقد سقط ما يقارب 150 منهم بين جريح وقتيل، وأبرزهم؛ نادر الرخيته، الشقيق الثاني لصدام الجمل. وكانت أبرز الفصائل التي شاركت في المعركة “النصرة” و”أحرار الشام” ولواء “عمر المختار” و”كتائب الشعيطات” وكتائب تابعة للجيش الحر في ريف البوكمال الغربي و”بشائر النصر”. وإثر تلك المعركة طُرِد التنظيم من مدينة البوكمال بشكل كامل، لينسحب عناصره ويتمركزوا في البادية في محطة T2 النفطية (محطة لضخ النفط القادم من العراق وحقول دير الزور في اتجاه المحطة الثالثة T3 القريبة من تدمر) والمعروفة بمنطقة “الكم”، والتي تبعد عن مدينة البوكمال 85 كيلومتراً جنوباً([20]).
كان الانسحاب الأول من دير الزور، وبعده فشل اقتحام مدينة البوكمال، أكبر ضربة مؤلمة تلقاها تنظيم الدولة منذ تأسيسه في سوريا في 9 نيسان/أبريل 2013. فعدا عن تداعياتها المباشرة، كخسارته معبر “القائم” الرئيسي مع العراق وأغلب حقول النفط. تولّدت عند عناصره نزعة انتقامية، لا سيما وأن هزيمة دير الزور عزلتهم في الرقة وريف حلب الشرقيّ، واستنزفتهم عسكرياً وبشرياً([21]).
استمرت معارك مركدة الطاحنة قرابة شهرين، لتنتهي في أواسط شهر نيسان/أبريل العام 2014، بسيطرة تنظيم الدولة على حساب تحالف الفصائل، وفي مقدّمهم “النصرة” و”أحرار الشام” وفصائل “الجيش الحر”، وكتائب الشعيطات ضمناً. وقد وظَّف “داعش” انتعاشته العسكرية والمعنوية بعد مركدة لإعادة السيطرة على محافظة دير الزور، فاستقدم تعزيزات عسكرية ضخمة من حلب والرقّة والعراق، بعد وضع خطة عسكرية بإشراف عمر الشيشاني لهجوم متزامن على المحافظة من خمسة محاور، مُقسَّمة على ثلاثة اتجاهات، الأول: انطلاقاً من ريف الحسكة الجنوبي (خط الخابور)، حيث هاجم “داعش” ريف دير الزور الشمالي من محورين (غرب الخابور، شرق الخابور)، بهدف الوصول إلى الريف الشرقي. الثاني: انطلاقاً من جهة الرقة، حيث هاجم ريف دير الزور الغربي من محورين (خط الجزيرة انطلاقاً من الرقة، خط الشامية انطلاقاً من بلدة معدان). والثالث: من جهة “بادية الشام” حيث شنَّ عناصر داعش بالتزامن هجوماً بقيادة أبو أيمن العراقي. وقد توزَّعت باقي المحاور على عدة قيادات أجنبية ومحلية أبرزها عمر الشيشاني([22]).
بدأ “داعش” هجومه الأعنف انطلاقاً من ريف الحسكة الجنوبي باتجاه ريف دير الزور الشمالي، حيث حدَّد بلدة “الصوَر” هدفاً له بعد مركدة، ليخوض فيها معارك “كسر عظم” ضد تحالف الفصائل، خلَّفَت في وقت قصير ما لا يقل عن 150 بين قتيل وجريح من الفصائل، وكذلك عدداً أكبر من عناصر “داعش”([23])، وانتهت بسيطرة الأخير بتاريخ 16 نيسان/أبريل 2014([24])، ومن بعد “الصوَر” انتقل هجوم هذا الخط إلى ريف دير الزور الشرقي. وبالتزامن مع هجوم خط الحسكة، نفَّذَت مجموعات “داعش” هجوماً آخر من محافظة الرقة على الريف الغربي لدير الزور، والذي يقسمه نهر الفرات إلى قسمين، يسمى الأول “شامية” من جهة بادية الشام، والثاني من جهة الجزيرة السورية (الحسكة) ويُسمَّى “جزيرة”، فتمكّن من السيطرة على أغلب مناطق الـ”شامية” ومحاصرتها من دون مقاومة فعليّة، باستثناء معارك متفرقة خاضها التنظيم ضد “أحرار الشام” في معدان والتبني([25]).
بالتزامن مع تلك السيطرة انطلقت مجموعات “داعش” بهجوم من جهة بادية الشام (طريق الشام) إلى غرب دير الزور، ودخلت في مواجهة مع “النصرة” في قرية “كباجب” انتهت بانسحابها من القرية، ومع “أحرار الشام” في منطقة “الجولة” انتهت باتفاق يضمن انسحاب آمن لعناصرهم، لكن داعش حنَث بوعده وقتل نحو 51 مقاتلاً منهم. ثم استكمل هجومه على قسم “جزيرة” من ريف دير الزور الغربي عبر محاور مختلفة، حتى استطاع إخضاعه كاملاً في 10 أيار/مايو العام 2014([26]). ولم يبقَ من الريف الغربي سوى بعض المناطق المحدودة التي شهدت كرّاً وفرّاً بين الطرفين، حتى استطاع التنظيم إخضاع ما تبقى وإحكام السيطرة عليه في أوائل حزيران/يونيو العام 2014(27).
كان لسقوط أغلب الريف الغربيّ أثره المباشر على المشهد العسكريّ في ما تبقى من محافظة دير الزور، إذ اقترب “تنظيم الدولة” من مركز المدينة وفرض حصاراً جزئياً على أحيائها، خصوصاً بعد أن أغلق “جسر السياسية” وبعض المعابر النهرية، الشريان الوحيد الواصل بين الريف ومناطق سيطرة فصائل المعارضة في مدينة دير الزور، كما نَصَب حواجز عسكريّة على الطرق المؤدّية إلى المدينة وبخاصة طريق الشام-بادية الشام بهدف إطباق الحصار على كامل المحافظة، وبذلك أصبحت فصائل “الجيش الحرّ” و”النصرة” في المدينة محاصرة بين “داعش” وقوات النظام. ولم يقتصر هذا الحصار على الفصائل العسكرية، بل عانى المدنيّون في خلال تلك المعارك من آثار الحصار والتهجير، إذ حتى تلك المرحلة قُدِّرَت أعداد الذين فروا من المدنيّين جراء المعارك بأكثر من 100 ألف في تلك الفترة([27]).
بالتزامن مع كل تلك الأحداث المتسارعة، كان “داعش” يخوض مواجهاته الأعنف في ريف دير الزور الشرقي، والذي يقسمه نهر الفرات أيضاً إلى قسمين تعرف بذات الأسماء (جزيرة، شامية). فكان الصراع الأعنف في خط الجزيرة حيث الموارد والثروات (حقول الغاز والنفط)، ومعاقل خصوم التنظيم من “النصرة” و”الجيش الحر”، إضافة إلى الثقل والاستقطاب العشائري الذي كان أثره واضحاً في الصراع، خصوصاً بعد استغلال كل من “جبهة النصرة” وتنظيم الدولة لمراكز الثقل العشائري في هذا الخطّ، إذ اتخذت “النصرة” من شحيل معقلاً رئيسيّاً لها، فتحالفت مع القسم الأكبر من عشيرة البو جامل-عكيدات. في حين استقطب داعش قسماً من عشيرة البكيّر-عكيدات، وكان قد اتخذ سابقاً من قريتي “جديد عكيدات” و “البريهة” مراكز رئيسيّة له، قبل أن تنجح “النصرة” وفصائل “الجيش الحرّ”([28]) في طرده منها.
لم ينقطع هجوم “داعش” على هذا الخط من بعد سيطرته على بلدة الصوَر في 16 نيسان/أبريل 2014. فقد استهدف بعدها قرية “جديد عكيدات” التي تحوَّلت إلى خطّ دفاع بعد مركدة وشهدت مقاومة عنيفة. وقد دارت فيها معارك طاحنة استمرّت حوالي الشهر حتى منتصف أيار/مايو، وقتل وجرح فيها المئات من الطرفين، وخسرت كتائب الشعيطات حوالي 30 بين قتيل وجريح، إضافة إلى العشرات من الفصائل الأخرى([29]). ومع تلك المعارك الطاحنة وتوسُّع رقعتها، ظهرت عدة مبادرات لوقف إطلاق النار، خصوصاً بين التنظيمين الجهاديّين المتصارعين على أرض دير الزور (داعش، النصرة)، وكان أبرزها مبادرة “تنظيم القاعدة” التي دعا إليها زعيمه أيمن الظواهري، إلى جانب مبادرات عشائرية محلية، إلا أنها سرعان ما فشلت، لتستمر المعارك بوتيرة أعنف([30]).
في خضم المعارك الشرسة للسيطرة على “جديد عكيدات”، استطاع “داعش” التقدم وانتزاع حقل “كونيكو” للغاز وبعض الآبار النفطية في محيطه بتاريخ 9 أيار/مايو 2014، بالتزامن مع انتقال الاشتباكات إلى محيط بلدة خشام([31])، ليستكمل بعد كرّ وفرّ سيطرته على “جديد عكيدات” في منتصف أيار/مايو العام 2014([32]). وإثر هذا التقدم، بدأت تَسْقُط القرى واحدة تلو الأخرى، كجديد بكارة والدحلة، إضافة إلى الصبحة والزر التي استغل التنظيم فيهما التناقضات العشائرية، وتحدُّر بعض قياداته العسكرية منها، وأبرزهم أحمد عبيد الدهام، الملقب بـ “أبو دجانة الزر”، أمير القاطع العسكري لريف دير الزور الشمالي([33]). وبذلك وصل “داعش” وفقاً لخطته إلى البصيرة، التي تعد صلة الوصل بين الريف الشرقيّ ومدينة دير الزور.
أمام هذا التهديد المتصاعد، تجمَّعت الفصائل المقاتلة في الريف الشرقي ضمن غرفة عمليات عسكرية واحدة لمواجهة “داعش”، أُعلِنَ عنها بتاريخ 25 أيار/مايو العام 2014، تحت اسم “مجلس شورى المجاهدين”، وضمت “جبهة النصرة” و”جيش الإسلام” و”أحرار الشام” و”جيش مؤتة الإسلامي” و”بيارق الشعيطات” و”جبهة الأصالة والتنمية” و|حركة الجهاد والبناء”([34])، إضافة إلى مجموعة من فصائل مقاتلة أخرى. وقد خاض مقاتلو المجلس الجديد أواخر أيار/مايو 2014 معارك شرسة ضدّ “داعش” في الريف الشرقي، كما استهدفوا مواقعه عبر عمليات ومعارك متفرقة في الريف الغربي والشمالي، استطاعوا خلالها استعادة بعض القرى والبلدات([35]).
ورغم تلك المقاومة الشديدة، استمر التنظيم في ضغطه العسكري على الريف الشرقي لتحقيق خطته في السيطرة على البصيرة، التي تحوَّلت إلى خط دفاع بعد “جديد عكيدات”، ودارت فيها معارك عنيفة استمرت طوال شهر أيار/مايو 2014 وبلغت ذروتها أواخره([36])، وانتهت بسيطرة داعش في أوائل الشهر التالي([37]). بعدها انتقل التنظيم إلى استهداف قرى تسيطر عليها “جبهة النصرة” و”أحرار الشام” كقرية “طابيّة جزيرة” ومحيطها، واستقدم تعزيزات ضخمة من كتائب “البتار” الليبية، ما أجبر خصومه على الانسحاب منها في حدود 9 من حزيران/يونيو العام 2014، وكان قبلها قد حيَّد بلدة خشام ومحيطها بعد اتفاق مع بعض فصائلها([38])، ليسيطر عليها كاملة بتاريخ 10 حزيران/يونيو([39])، إلا أن “داعش” لم يلتزم الاتفاق، فنفَّذَ فور دخوله إعدامات ميدانية عدة، إضافة إلى تهجيره لاحقاً، بتاريخ 23 حزيران/يونيو سكان بلدة خشام وقرية طابية، الذين بلغت أعدادهم في تلك الفترة حوالى 30 ألف مدني، وقد أعلنت المجالس المحلية في تلك الفترة أغلب مناطق الريف الشرقي والغربي من دير الزور كمناطق منكوبة، وسط فرار عشرات الآلاف من السكان نتيجة استمرار المعارك([40]).
بعد هذا التقدم، وسقوط البصيرة، بات التنظيم وجهاً لوجه مع أبرز معاقل “النصرة” في دير الزور، وهي شحيل، حيث بدأ خوض اشتباكات في محيطها ومحاولات السيطرة عليها بغية قطع طرق الإمداد عن البوكمال، مستفيداً من زخم تقدمه في أغلب المحافظة، والذي زاده في تاريخ 10 حزيران/يونيو 2014 أخبار انهيار الجيش العراقي أمام سيطرة “داعش” على أغلب أحياء الموصل([41]).
وظَّف “داعش” كل ذاك الزخم المعنوي، الذي سرعان ما تحوَّل إلى إمدادات عسكرية من العراق، لإخضاع ما تبقى من محافظة دير الزور بأساليب مختلفة. فبالتزامن مع خوضه اشتباكات عنيفة في قسم “الجزيرة” من الريف الشرقي لدير الزور، كان “داعش” قد بدأ بتكتيكات مختلفة في القسم الآخر من هذا الريف (شامية)، اعتمدت على استمالة بعض الفصائل وأخذ بيعات عسكرية سريّة أو علنية، إضافة إلى محاصرة بلدات وقرى أخرى وتخييرها بين “البيعة” أو القتال والتهجير، كالقرى المحيطة بمطار دير الزور العسكري، والتي لم تستطع فصائلها فتح جبهتين ضد النظام و”داعش” في نفس الوقت خصوصاً مع استمرار قصف النظام لمواقعها، كالمريعية والبوعمر وطابية شامية. إذ خيّر “داعش” فصائل تلك القرة بين مبايعته أو حلّ نفسها أو الانسحاب. فاختار معظم قادتها الانسحاب. في المقابل استطاع التنظيم إبرام اتفاق سرّي مع مجموعة محدودة في مدينة موحسن، يقضي بتسليمها لـ”داعش” وبقاء بعض الكتائب مرابطة في المطار العسكري([42])، ليسيطر التنظيم عليها وعلى قرية البوليل من دون معارك بتاريخ 20 حزيران/يونيو 2014([43])، ويُنفِّذ عمليات إعدام بعدد من ضباط وقادة “الجيش الحر” الرافضين للاتفاق([44]). وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام سقوط العديد من القرى والبلدات على هذا الخط.
بالتزامن مع تلك الاتفاقات في الريف، استطاع التنظيم في نفس الوقت أخذ “بيعات عسكرية” من بعض فصائل المدينة بعد حصارها، وإثر بيعات تلك الفصائل التي تحوَّل بعضها إلى خلايا لـ”داعش”، انسحبت بعض مجموعات الريف العسكرية التي كانت مرابطة في مدينة دير الزور، وعلى رأسها مجموعات من الشعيطات، من مدينة دير الزور في 15 حزيران/يوينو العام 2014، كما انسحبت من مواقعها في مطار دير الزور العسكري في 20 من الشهر ذاته، بعد تعرضها لهجوم من خلايا “داعش” في موحسن، لتعود تلك المجموعات إلى التمركز في قرى الشعيطات خصوصاً مع حصار مجموعات التنظيم لمدينة شحيل واقترابه من حدود بلدات الشعيطات([45]). لتبدأ مرحلة جديدة مع نهاية حزيران/يونيو العام 2014، عنوانها انتزاع ما تبقى من المحافظة من دون معارك، بل عبر المفاوضات و”البيعات” القسريّة.
بعد وصول “تنظيم الدولة” إلى شحيل، معقل “النصرة” في دير الزور، وإثر مقاومة شديدة وإنهاك الطرفين وسيطرة “داعش” على أغلب المحافظة؛ بدأت تنتشر، بتاريخ 26 حزيران/يونيو العام 2014، أخبار حول مفاوضات بوساطة عشائرية بين “داعش” و”جبهة النصرة” لوقف إطلاق النار في دير الزور وتسليم مدينة شحيل. كما سرت إشاعات حول احتمال تسليم فصائل الشعيطات لمناطقها أيضاً، فسارعت هذه الأخيرة إلى إصدار بيان مصوَّر ينفي تلك الإشاعات ويؤكِّد أنها لن تبايع التنظيم، ولإثبات ذلك توجَّه رتل عسكري من مقاتلي الشعيطات بتاريخ 28 حزيران/يونيو 2014 من بلداتهم إلى محيط شحيل([46])، حيث التقوا قيادات “النصرة” في حقل العمر النفطي لوضع خطة لمواجهة التنظيم وتوزيع محاور القتال ضده([47]).
وفقاً للخطة، كان دور فصائل الشعيطات التوجه إلى البوكمال لحمايتها وتأمينها، خصوصاً بعد وصول معلومات تفيد بأن القائد العسكري لـ”جبهة النصرة” في البوكمال، أبو يوسف المصري، سيُسلِّم المنطقة إلى “داعش”، فاتجهت تلك الفصائل في اليوم نفسه إلى الميادين ثم إلى البوكمال، وكان القصد من اختيار طريق الميادين رفع معنويات الفصائل العسكرية المتواجدة على هذا الخط. ثم كان من المقرر أن تُهاجَم مدينة القورية، قرب الميادين، وهي معقل القيادي المحلي محمود المطر المبايع لـ”تنظيم الدولة”، فاتّجهت مجموعات عسكرية من الشعيطات إلى القورية، لكن كان هناك كمين منع دخولهم فاضطروا إلى العودة إلى الميادين ثم إلى البوكمال، وكان هناك أيضاً كمين في البوكمال نتيجة مبايعة أبو يوسف المصري لـ”داعش”([48])، فدارت اشتباكات لساعات اضطرت بعدها فصائل الشعيطات إلى الانسحاب إلى بلداتها([49]).
أمام هذا التسارع الكبير، استيقظ العالم بتاريخ 29 حزيران/يونيو 2014، على خبر إعلان “داعش” قيام “الخلافة الإسلامية”، ومبايعة أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين. فقد بثَّ التنظيم تسجيلاً مصوراً لكسر الحدود بين العراق وسوريا بحضور الناطق الرسمي، أبو محمد العدناني، وبعض القيادات العسكرية([50]). ولم يكد يمرّ على الإعلان يوم واحد حتى سيطر “داعش” على مدينة البوكمال الحدودية في الأوّل من تموز/يوليو 2014([51]). وبذلك، لم يبق سوى مراكز المقاومة في الريف والفصائل التي تشغلها: شحيل (جبهة النصرة)، العشارة (بشائر النصر)، بلدات الشعيطات (بيارق الشعيطات)، والتي لم يبقَ لها إزاء هذا التقدم السريع سوى طريق المفاوضات، التي افتتحها التنظيم مع شحيل في أواخر حزيران/يونيو العام 2014.
فاوض “داعش” فصائل شحيل وقادة “النصرة” من موقع المنتصر، ففرض شروطه التي قضت بتسليم المنطقة، وسحب السلاح الثقيل والخفيف من الفصائل التي قاتلت التنظيم وإعلان توبتهم. أمّا من يرغب في إعلان البيعة فيبقى سلاحه معه. وكذلك فرض تسليم سلاح الأهالي وإعلان توبتهم، ثم تهجيرهم منها لمدة 10 أيام وعودتهم إليها بعد تأمين المنطقة([52]). وعندما اتضحت شروط “داعش” لتسليم شحيل، اعتمدت “جبهة النصرة” خطة تقضي بانسحاب العناصر والقيادات ليلاً مع السلاح الثقيل، بالتنسيق مع بعض قادة الفصائل الأخرى كـ”بشائر النصر” و”الشعيطات” وغيرها، فشارك بعض العناصر من فصائل الشعيطات في خطة سحب السلاح الثقيل، وليس جميع الفصائل، خصوصاً بعد أن تأكّدوا بأن “النصرة” ستُسلِّم شحيل، إضافة إلى رغبة الوجهاء والأهالي في السير بالحلّ السلميّ.
انسحبت قيادات جبهة “النصرة” ومجموعاتها عبر البادية في اليومين الأوّلين من شهر تموز/يوليو العام 2014، برفقة مجموعات من ألوية “عمر المختار” و”بشائر النصر” و”أحرار الشام” ومجموعة من فصائل الشعيطات وغيرها من الفصائل آخذة معها السلاح الثقيل، وبعدها افترقوا في البادية؛ فتوجَّهَ مقاتلو “أحرار الشام” وجبهة “الأصالة والتنمية” و”عمر المختار” و”الشعيطات” و”بشائر النصر” إلى منطقة القلمون، فيما توجَّهت “جبهة النصرة” إلى الجنوب السوري([53])، حيث التحقت بمجموعاتها في درعا والقنيطرة([54]).أما من تبقى من الفصائل المحلية في شحيل، فقد أعلنت مع وجهاء المدينة “بيعتها لـ”داعش” وتبرَّأت من أعدائه في بيان مصوَّر بتاريخ الثالث من تموز/يوليو العام 2014([55])، ليدخلها التنظيم لاحقاً ويهجِّر سكانها وغيرهم من النازحين فيها لمدة 10 أيام، وفقاً للاتفاق، وقد بلغت أعدادهم في تلك الفترة حوالى 30 ألف نسمة([56]).
كان تسليم شحيل إعلاناً لانسحاب “جبهة النصرة” من كلّ مواقعها المتبقية في المحافظة. وفي هذا السياق سيطر “داعش” في الثالث من تموز/يوليو العام 2014 على مدينة الميادين بعد انسحاب “النصرة” منها، كما سيطر على العشارة وقراها المجاورة بعد انسحاب جزء من فصائلها المقاتلة وإعلان البقية البيعة مع بعض الوجهاء وشيوخ العشائر. كما سيطر أيضاً في اليوم نفسه على حقل العمر النفطي، وعلى مدينة القورية بعد إعلانها التخلّي عن القتال عبر مقطع مصوَّر ظهر فيه بعض مقالتليها ووجهائها يعلِنون “البيعة”، وذلك بتأثير من القيادي في “داعش” محمود مطر([57]). وتجدر الإشارة، إلى أن تلك “البيعات” المتوالية من المدن والبلدات وبعض فصائلها ووجهائها، لم تكن انزياحاً عقدياً إلى خطّ “داعش”، بقدر ما جاءت انصياعاً لواقع عسكري فرضه التنظيم في المنطقة، خصوصاً مع اشتراطه تلك “البيعات” المصوَّرة على جميع الفصائل ووجهاء المدن والبلدات، وذلك كنوع من الإخضاع والدفع إلى الاعتراف بالهزيمة. لكنّ كلّ ذلك لم يشفع بالأهالي، إذ ما إن دخل “داعش” حتى نفّذ عمليات إعدام واعتقالات ضد خصومه في الميادين والبوكمال والقورية والعشارة وموحسن وخشام والجرذي وغيرها من سائر المدن والبلدات والقرى، استهدَفَت بشكل خاص عناصر وقيادات “النصرة” السابقين، والضباط المنشقين في فصائل “الجيش الحر”.
استمر “داعش” في حملته العسكرية في هذا الريف مسقطاً القرى واحدة تلو الأخرى ومن دون معارك، وذلك إلى أن سيطر على قرية “أبو حردوب” ليصبح وجهاً لوجه مع بلدات عشيرة الشعيطات (أبو حمام، غرانيج، الكشكية)، خصوصاً بعد سيطرته في الرابع من تموز/يوليو على حقل “التنك” النفطي في بادية الشعيطات، إضافة إلى قرية بقرص غرب الميادين([58]). لم يكن أمام فصائل الشعيطات المتبقية سوى خيار من سبقوها. فقد استأنف التنظيم مفاوضاته لتسليم بلداتهم في 7 تموز/يوليو 2014، والتي كانت قد بدأت فعلياً في خلال مفاوضات شحيل، حيث عقدت بعض قيادات الشعيطات العسكرية اجتماعات مع الوجهاء والأهالي في البلدات لتحديد موقف واحد واستمزاج آرائهم في موضوع المقاومة أو الانسحاب. كما خرج في تلك الفترة وفد عسكري من فصائل الشعيطات على رأسه عبد الباسط المحمد، القيادي العسكري في كتيبة “الحمزة”، مع بعض القادة والعناصر، إلى مدينة الشدادي للتفاوض مع قادة “داعش”، وذلك بوساطة مِنْ قيادات محلية، فالتقوا بوالي الحسكة، ويدعى أبو جبل، وهو سعوديّ الجنسيّة([59]). كانت نقاط المفاوضات في تلك الفترة عامة، أوضحت فيها قيادات “داعش” أنّ وضع الشعيطات لن يكون في المفاوضات كوضع “جبهة النصرة”.
ومع بدء المفاوضات التفصيلية لتسليم مناطق الشعيطات، جزَّأ “داعش” التفاوض بحسب الفصائل والبلدات. إذ فاوض في نفس الوقت فصائل أبوحمام والكشكية على حدة (كتيبة الحمزة)، وجرت هذه المفاوضات في بلدة أبو حمام، ومثَّل “داعش” فيها أبو سيف الشعيطي. أما بالنسبة إلى غرانيج، فجرت المفاوضات مع فصائلها (لواء ابن القيم، كتيبة أحفاد عائشة) ومجموعة من الوجهاء في أحد أحياء غرانيج. وقد تمحورت مطالب فصائل الشعيطات حول: عدم إنشاء مقرات عسكرية ضمن منطقة الشعيطات، مقابل توفير فرص عمل للشباب في حقول النفط في بادية الشعيطات، وأن يفوَّض على المنطقة شخص من أبنائها. في المقابل اشترط “داعش” أن يسلَّم سلاح الفصائل كاملاً بإشراف قادتها، ثمّ إعلانهم توبتهم. ومهما كان عدد عناصر “التنظيم” التي قتلها الشخص، يُعفَ عنه ويلزَم منزله. كما يُسمَح بالمغادرة لمَن يرغب منهم في ذلك، ويُعلَن خضوع مناطق الشعيطات بكاملها لسيطرة “داعش” فتُرفَع راياته وتسير دورياته في الطريق العام([60]).
لم يكن أمام ما تبقى من فصائل الشعيطات سوى القبول بالشروط المفروضة، فتم الاتفاق بتاريخ 8 تموز/يوليو العام 2014، ووُضِع فوراً موضِع التنفيذ. وفي 9 و12 تموز/يوليو العام 2014 بدأت الفصائل بتسليم أسلحتها لـ”داعش” في حقل التنك النفطي. والحقيقة أنّ أغلبها سلّم السلاح القديم وسيارات الدفع الرباعي، وخبأ بعض الأسلحة المتوسطة (كمضادات 23، ومدافع 57) إضافة إلى بعض الأسلحة الخفيفة، وذلك خشيّة غدر عناصر “داعش” لاحقاً.
امتعضت قيادات التنظيم من كمّية ونوعية الأسلحة المسلَّمة، خصوصاً أنّ الفصائل قاتلت أكثر من ستة أشهر بسلاح أكبر، وعلى أثر ذلك انتشرت أخبار حول تهديدات وُجِّهت إلى بعض قادتها ما أسهم في دفعهم للخروج من البلدات الثلاث. وكانوا قد اعتبروا أيضاً أن مهمتهم انتهت مع تسليم السلاح ودخول “داعش” وتحوّل الأمر إلى الوجهاء. كما عزز الوضع الأمني غير المستقر وقطع الطرق بعد سيطرة “داعش” على أغلب المحافظة، دوافع خروجهم، بين 12 و20 تموز/يوليو العام، إلى تركيا ومناطق سيطرة “الجيش الحر” في ريف حلب. حينها كان “داعش” قد أعلن في 12 من الشهر ذاته، سيطرته الكاملة على مناطق الشعيطات، ومنح المقاتلين مهلة قصيرة تنتهي في 17 تموز/يوليو لاستكمال “التوبات”([61]).
بعد يومين من تسليم الشعيطات سلاحَهم، أي في 14تموز/يوليو 2014، دخل عناصر تنظيم الدولة مناطقَ سيطرة فصائل المعارضة في مدينة دير الزور من دون معارك([62])، وبذلك أطبق “داعش” على كامل دير الزور، باستثناء حيّّين في المدينة، والمطار العسكري ومحيطه في ريفها، ظلت تحت سيطرة النظام. غيّر “داعش” اسم المحافظة إلى “ولاية الخير”، واستحدث لاحقاً تقسيماً إدارياً جديداً، بعد إعلانه عن “ولاية الفرات” التابعة للعراق والتي ضمت مدينة البوكمال السورية وبعض قراها وبلداتها.
أفضت تلك المعارك الطاحنة إلى سقوط عدد كبير من القتلى المدنيين إضافة إلى العسكريين. وقد قدَّرَت المراصد الحقوقيّة في تلك الفترة أعداد من قضى على مستوى سوريا في الصراع بين “داعش” و”النصرة” في أقلّ من ستّة أشهر بـ 7000 بين مدنيّين وعسكريين من الطرفين، من دون تفصيل حول الأعداد في دير الزور التي مثَّلت ساحة الصراع الأكبر([63]). من جهة أخرى تسبَّبت تلك المعارك بموجة تهجير واسعة من محافظة دير الزور. وقُدِّرت أعداد النازحين بعد سيطرة “داعش” بأكثر من 350 ألف نسمة، توجهوا إلى المحافظات السورية، أو إلى تركيا وغيرها من الدول([64]).
وسط إحباط عام خيّم على محافظة دير الزور بعد سيطرة “تنظيم الدولة” وانهزام خصومه من الفصائل المحلية، شهدت بلدات الشعيطات هدوءاً حذراً في خلال الأيام الأولى من الاتفاق. ولم يكد يمضي الأسبوع الأول حتى نفّذ الـ”تنظيم” أولى خطواته لنقض الاتفاق، ذلك بإنشائه مقرّاً عسكرياً في بلديّة الكشكية بعكس ما تم التوافق عليه. ثم لم يلبث أن نصبَ على الطريق العام حاجزاً عسكرياً راح يضيّق على السكان، سواء في المسائل اليومية أو الشخصية، مثل فرض إطلاق اللحى وتقصير الإزار (البنطال) ومنع التدخين، أو في التدقيق الأمني على بعض المقاتلين السابقين من “الجيش الحر” والفصائل الأخرى([65]).
إضافة إلى هذه التصرّفات عمد “داعش” إلى اعتقال وتعذيب عدة أشخاص من الشعيطات ممّن كانوا عناصر سابقين في “جبهة النصرة”، وذلك في سياق حملة أمنية أطلقها لملاحقة عناصرها في بعض القرى([66])، شملت الاعتقالات أيضاً مدنيين من غرانيج بعد أن نصب أحد قياديي “داعش” المحلّيين حاجزاً في البلدة ، يُدعى عبد الرزاق عيسى العبد، الملقب بـ “أبو علي الشعيطي”. كما شهدت المنطقة في تلك الفترة تصاعداً في نشاط أمنيّي داعش، الذين طالبوا عناصر سابقين في فصائل الشعيطات ممن أجروا “تسوية”، أن يُعلِنوا توبتهم ويسلّم كلّ مقاتل منهم قطعة “كلاشينكوف”، وثمانية مخازن ذخيرة مجدّداً، مع أنّهم سلَّموا سلاحهم سابقاً بإشراف قادة الفصائل. ولم يكن هذا الإجراء شرطاً، بقدر ما كان خطوة إضافية تضمن للمقاتل طيّ ملفه الأمني وضمان عدم ملاحقته مستقبلاً، وقد انسحب الإجراء نفسه على الإعلاميّين العاملين سابقاً مع الفصائل، وعلى كلّ متعاون سابق معها([67]).
لم تكن تلك الخروقات بالنسبة إلى الشعيطات إلا نوعاً من ممارسات عقابية يفرضها “المنتصر” على “المهزوم” عسكرياً، ولا خيار إلا التكيّف معها، حتى حدَثَ الخرق الأبرز بتاريخ 30 تموز/يوليو العام 2014، عندما داهمت دورية تابعة لـ”داعش”منزلاً في بلدة أبو حمام بغية اعتقال أحد المدنيين، كانت الدورية مؤلّفة من ثمانية عناصر يستقلّون سيارة دفع رباعي، بينهم أجانب (بلجيكيّ ومغربّي) وآخرون محليّون. وبحسب الشهادات فإن بعض العناصر المحليّين كان لهم ثأر شخصي مع الرجل الذي دُوهِم منزله، وقد وصلوا إليه إثر وشاية من عناصر محليين كانوا قد بايعوا التنظيم في أوقات سابقة. توجَّهت الدورية نحو منزل حمدان حميد العليان (40 عاماً) في بلدة أبو حمام، وكان يقضي إجازته قادماً من مكان عمله في الكويت، وحين أراد عناصر الدورية اعتقاله، رفض الانصياع لهم فأطلقوا النار عليه وأردوه قتيلاً، ثم انسحبوا. حاول أحد جيران القتيل، ويُدعى محمد الناصر الفرج (22 عاماً)، الخروج من منزله لاستطلاع الأمر، حاملاً سلاحاً فردياً إثر سماعه إطلاق نار فقُبض عليه وأُعدم ميدانياً فوراً ومُثّل بجثته في سوق البلدة([68]).
شكّلت حادثة مقتل الرجُلين صدمة للشعيطات، ولم تمضِ ساعات حتى انتفض الأهالي وخرجت مظاهرة احتجاجية، وسرعان ما تشكّلت مجموعة مُسلَّحة غير منظَّمة في بلدة أبو حمام، ضمت حوالى 50 فرداً من مختلف بلدات الشعيطات، من الشبان المدنيين إضافة إلى العناصر السابقين في الفصائل ممّن خضعوا للـ”تسوية” مع التنظيم([69]). هاجمت المجموعة أولاً سيارةً عسكرية لـ”داعش” كانت تمرّ في الطريق الرئيسي للبلدة وفيها عنصران، أحدهما قيادي محلي هو عكلة البرجس قُتل على الفور، والآخر عنصر محلي أُفرِج عنه لاحقاً([70]). اتجهت المجموعة إلى المقر العسكري الذي كان “داعش” قد استحدثه في بلدية الكشكية، فاشتبكوا مع العناصر المتواجدين فيه، ما أدى إلى مقتل اثنين منهم (بلجيكي، محلي) وأسر الباقي وعددهم أربعة (ثلاثة منهم محليون وأحدهم مغربي)([71])، منهم “المسؤول الشرعي” لـ”داعش” في منطقة الشعيطات، المُلقَّب بـ “أبي جُليبيب”([72]). وبعد ساعات قتل ذوو القتيل من أبناء الشعيطات اثنين من الأسرى الأربعة، في حين تحفّظ أحد الوجهاء على آخرَين ، أحدهما المسؤول الشرعي لـ”داعش”([73]).
لم تلبث أن بلغَت أخبار الحادثة قيادة التنظيم، وكانت أقرب نقطة تمركز لها في حقل “التنك” النفطي والقرى المجاورة، فعمد عناصر “داعش” في نفس اليوم إلى اعتقال 26 موظّفاً مدنياً من أبناء الشعيطات، ممن وظَّفهم في حقل “التنك” النفطي أوّل سيطرته وفقاً للاتفاق، ولم يكن هؤلاء المدنيون يعلمون أي شيء عن الحادثة التي لم يشهدوها أساساً([74]).
وفي مساء 30 تموز/يوليو 2014، انتشرت في كامل بلدات الشعيطات أخبار الحادثة، والتي ستُعرَف لاحقاً في الذاكرة الشفوية للشعيطات بـ”حادثة البلدية”، وسادت معها حالة من الترقُّب لما هو قادم. وفي محاولات لاحتواء الموقف، بدأت اجتماعات بين الوجهاء والمجموعات الشبابية المُسلَّحة، والتي سرعان ما زاد عديدها وحماسها حتى بلغت قرابة 100 شاب تركَّزوا في بلدة أبو حمام، وقسَّموا أنفسهم عدّة مجموعات على ثلاثة محاور (جهة البادية، محور قرية أبو حردوب، محور النهر)، وذلك لحماية البلدة من أي هجوم محتمل لعناصر “داعش”.
ساد اعتقاد أنّ بعض الأفراد التحقوا بالمجموعات المُسلّحة في أبوحمام لأن لهم مصلحة في خروج “داعش” من المنطقة، خصوصاً أولئك الذين كانوا يستثمرون النفط. لكن الحقيقة هي أنّ المُحرِّك الرئيسي لتجمُّع غالبية الشبان في ذلك اليوم، تمثَّل بالعصبية العشائرية (الفزعة)، التي حرّكتها حادثة القتل والتمثيل بالجثة. تلك العصبية هي التي أمَّنَت نوعاً من التضامن بين أفراد مجتمع الشعيطات بغض النظر عن أهداف البعض ونواياهم.
اعتمدت تلك المجموعات على الأسلحة الخفيفة (كلاشينكوف، بي كي سي، قواذف أر بي جي، قناصات) المتوفّرة لدى البعض، كما على بعض الأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي أُخفِيت عند تسليم سلاح الفصائل لـ”داعش” بموجَب الاتفاق المعقود (بعض المضادات، وشيلكا)([75]). لكن ما كان لهذا السلاح أبداً أن يؤمِّن تكافؤ القوة مع داعش، خاصة بعد خروج قيادات فصائل الشعيطات العسكريّة من المنطقة وسحب السلاح الثقيل، إضافة إلى تسليم أغلب السلاح الخفيف، ويُضاف إلى كلّ ذلك النقص في الذخائر.
ومع الاستعدادات وتوقُّع الهجوم المحتمل، اعتقد سكان بلدات الشعيطات أن ردّة فعل “داعش” يوم الحادثة، اقتصرت على اعتقال موظفي النفط. ولكن، بعض شرعيّي “داعش” كانوا قد اتخذوا في ذاك اليوم خطوات أبعد من ذلك بكثير، وعلى رأسهم المدعو، أبو عبد الله الكويتي، إذ صدرت باسمه في نفس اليوم “فتوى داعش” الشهيرة بحق كامل عشيرة الشعيطات، والتي اعتبرتهم “ناقضين للعهد ومرتدين عن حكم الشريعة” وسُلطتها المتمثلة بـ”داعش”، وصنَّفتهم كـ”طائفة مُمتَنِعة بشوكة”، أي أنهم مجموعة امتنعت عن الاستجابة لأحكام تلك “الشريعة”، وكان هذا الامتناع بشوكة: أي بقوة وسلاح يقاتلون به وأرض يتحصنون فيها، وبالتالي أصدر حكمه فيهم على أنهم «طائفة كفر يجب تكفيرها وقتالها قتال الكفار، وإن أقرَّت بحكم تلك الشريعة، ولم تجحدها، ولَا يجوز أن يُعقد لهم ذمة ولا هدنة، ولا أمان، ولا يطلق أسيرهم ولا يفادى بمال ولا رجال، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ولا يُسترقون، ويجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم، والإجهاز على جريحهم، ويجب قصدهم بالقتال ولو لم يقاتلونا أبداً”([76]).
ورغم عدم وجود أي وثيقة رسمية صادرة عن التنظيم بنص “الفتوى”، والتي غالباً ما تُنقل إلى العناصر بشكل شفهي ضمن المعسكرات، إلا أن أمر تنفيذها موثَّق عبر كتاب مُرسل من قيادة “داعش” في “ولاية الخير” (دير الزور) إلى المسؤول الشرعي في الولاية أبو الفاروق التونسي. الكتاب الذي نشَرَت نسخة منه صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، موضِّحة أنه مُسرَّب عن عناصر مِن “داعش”. وقد تضمَّن الكتاب عبارتين قصيرتين: “إلى الأخ أبو الفاروق التونسي، يُرجى الالتزام الكامل بفتوى الشيخ أبو عبدالله الكويتي في مسألة مُرتدِّي الشعيطات، بنداً بنداً، والله من وراء القصد، وجزاك الله خيراً أخي الفاضل”. وقد حملت الوثيقة المؤرَّخة هجرياً بتاريخ 3 شوال 1435 الموافق 30 تموز/يوليو 2014، ختم ولاية “الخير” وتوقيع المُرسِل([77]). وبحسب تاريخ الوثيقة، فإن نقاش “الفتوى” وإصدار الأمر بتنفيذها لم يستغرق سوى ساعات بعد الحادثة.
أمَّنَت تلك الكلمات المختصرة، غطاءً أيديولوجياً “شرعياً” لتنفيذ الأمر العسكريّ، وخطاباً تعبويّاً لتجييش عناصر “داعش” وتبرير تحركاتهم اللاحقة تجاه عشيرة الشعيطات، والتي ستُتَرجِم نص “الفتوى” عملياً على أرض الواقع “بنداً بنداً” بحسب ما ورد في أمر التنفيذ، وستبدأ بهجوم عسكري أفضى إلى معركة استمرت 12 يوماً، حمل كل يوم منها تطورات وتفاصيل تساهم في فهم تطور الأحداث وتفسير سياق المجزرة بحق عشيرة الشعيطات، والتي اتخَذَت بعد تاريخ 30 تموز/يوليو اسم “مرتدو الشعيطات” بحسب “أدبيات داعش” وإعلامه العسكري، وفي ما يلي استعراض لأيام المعركة بحسب تسلسلها الزمني وتطوّر مجرياتها:
شنَّ “تنظيم الدولة” عند فجر 31 تموز/يوليو 2014 أولى محاولاته لاقتحام بلدات الشعيطات، فبدأ بأطراف أبو حمام لكونها البلدة الأولى من جهة سيطرته، بقرية أبو حردوب، ولأنّ مجموعات الشعيطات المقاتلة تمركزت فيها. وقد تفادى مهاجمة الكشكية بسبب صعوبة العمليّة إذ كان من الممكن أن يُحاصَر بين غرانيج وأبو حمام. كانت قيادات “داعش” في المنطقة تعتقد أنّ المعركة ستكون سهلة عسكرياً، خصوصاً بعد سحب السلاح الثقيل من البلدات، وبعد تسليم الفصائل سلاحها الخفيف وفقاً للاتفاق الأول، إضافة إلى خروج أغلب القيادات إلى مناطق أخرى.
وبعكس توقعات التنظيم فشل الاقتحام الأول بعد اشتباكات عنيفة، استعمل فيها “داعش” الرشاشات الخفيفة والمتوسطة وقذائف “الهاون”([78])، مُعتَمِداً على مجموعات محليّة “مبايعة” له. في المقابل، انتقل مقاتلو الشعيطات سريعاً من الدفاع إلى الهجوم، خصوصاً بعد قدوم مؤازرات من باقي بلدات الشعيطات، فتقدّموا مساء هذا اليوم ليسيطروا على قرية أبو حردوب بشكل كامل، بمساعدة بعض أهالي القرية. وقد دارت اشتباكات عنيفة وسط قصف من “داعش” ما أدّى إلى احتراق مسجد القرية([79]). وانتهى اليوم الأول بتراجع التنظيم إلى قرية الجرذي وخسارته 14 من عناصره تقريباً بين قتيل وجريح، في حين وقع في صفوف مقاتلي الشعيطات أربعة قتلى وعدد من الجرحى، إضافة إلى بعض القتلى والجرحى من مقاتلي قرية أبوحردوب. وفي هذا اليوم أيضاً بثَّ التنظيم عبر مُعرِّفاته عدّة صور لموظفي النفط المدنيين، الذين اعتقلهم في اليوم السابق، فظهروا في بعض الصور مُكبَّلي الأيدي، بينما أظهرت أخرى تعذيب بعضهم، وقد حمَلَت جميع الصور تعليق: “ضباع الشرقية… في قبضة أسود الخلافة”. وأدَّت تلك الصور إلى زيادة حالة الاحتقان في بلدات الشعيطات، إضافة إلى التخوّف على مصير المعتقلين([80]).
دارت اشتباكات عنيفة في هذا اليوم على أطراف قرية الجرذي، استطاع مقاتلو الشعيطات في خلالها التقدم والسيطرة على “الجرذي الشرقي” المحاذية لقرية أبو حردوب. وفي خلال هذا التقدم انتفضت مجموعة مُسلّحة من سكان قرية “سويدان جزيرة” المجاورة، فهاجمت عناصر “داعش” وحرقت مقرّهم الرئيسي في القرية، وأجبرتهم على الانسحاب منها ومن قرية “الجرذي الغربي” المحاذية لها، بعد اشتباكات أدَّت إلى سقوط قتلى من الطرفين([81]). واستمر تقدم مقاتلي الشعيطات الذي شجَّع العديد من المناطق المجاورة، فهاجمت مجموعات مُسلَّحة من عناصر “الجيش الحر” السابقين في مدينة العشارة الحاجز الرئيسي لـ”داعش” في المدينة وطردت عناصره([82])، الذين لم يكونوا قد أحكموا سيطرتهم بعد على تلك المدن والقرى. وفي هذا اليوم أيضاً قرّر بعض الوجهاء إطلاق سراح العنصرين المتبقيين من أسرى “داعش”، من دون أي سياق تفاوضي (إعتاقهم)، وبالفعل أُطلِق الأسيران اللذين توجها في نفس اليوم إلى حقل “التنك” النفطيّ.
ومع توسُّع رقعة المواجهات، شهدت بعض القرى السابقة موجات نزوح، وسقط قتلى وجرحى من الطرفين المتقاتلَيْن اللذين حاول كل منهما إعادة تنظيم صفوفه. فمن جهة، أعاد مقاتلو الشعيطات تنظيم مجموعاتهم وأخذت تبرز وتتبلور قيادة عسكرية تمثّلت بشخص عبد الباسط المحمد، وهو قيادي سابق في كتيبة “الحمزة”، قاتل قوات النظام في عدة معارك وانخرط في قتال “تنظيم الدولة” عند سيطرته على دير الزور، ولم يخرج مع القيادات التي غادرت إلى تركيا أو الشمال السوري. يعد صاحب خبرة عسكرية ميدانية، ومعروف جيّداً من أهل الشعيطات([83]).
حمل فجر اليوم الثالث تطورات عسكرية مفاجئة بدأت بانسحاب جزئي لعناصر “داعش” من خط الجزيرة/الريف الشرقي (المنطقة الممتدة من بلدات الشعيطات إلى قرية الباغوز على الحدود العراقية) مع الإبقاء على بعض الدوريات. كما انسحب أيضاً من بعض آبار النفط المنتشرة في بادية الشعيطات، وتمركز في حقل “التنك” الذي تحوَّل إلى مركز لقيادة المعارك. كان لهذا الانسحاب الغريب عدة أهداف، أوّلها إعادة تموضع عناصر “داعش” وتركيزهم في محيط المعارك، إضافة إلى تأمين حقل النفط الأكبر، خصوصاً وأن التنظيم كان قد سيطر حديثاً على المنطقة ولم يتمكّن منها. أما الهدف الآخر، فقد تمثل بفتح ممر لمن يود الانسحاب وعدم إطباق الحصار على المنطقة، خوفاً من انتفاض العشيرة بكاملها. فهو في تلك المرحلة كان يحاول حصر المعارك مع المجموعات المقاتلة في أبو حمام وعدم توسيعها إلى سائر البلدات.
بالتزامن مع هذا الانسحاب، استمرت المعارك في بادية الجرذي وأبو حردوب وسويدان، وسط حركة نزوح كبيرة لأهالي تلك القرى نتيجة الاشتباكات. في المقابل، شنَّ “داعش” هجوماً عنيفاً على بادية أبو حمام، ما أدى إلى انسحاب مقاتلي الشعيطات من بعض المحاور في القرى المجاورة لصدّ هذا الهجوم. كما نصبت مجموعاته مدفعيات في منطقة الدوير على الضفة المقابلة لأبو حمام، وبدأت بقصفها. وفي نفس اليوم، تقدَّم عناصر “داعش” في اتجاه مدينة العشارة التي كانت قد انتفضت في اليوم السابق، واستعادوا السيطرة عليها. كما انتشرت في هذا اليوم أخبار حول مقتل موظفي النفط على يد “داعش” في حقل التنك، من دون التأكّد من ذلك.
شهد هذا اليوم استقدام “داعش” رتلاً عسكرياً وأسلحة ثقيلة من بلدة القائم العراقية إلى ريف دير الزور الشرقي([84])، وقد جاب رتل من سيّارات الدفع الرباعي المحمَّلة بالعناصر والسلاح بعض قرى وبلدات الريف الشرقي كنوع من استعراض القوة والترهيب، وكان ضمنه مدافع “فوزديكا” ودبابات و”همرات” أمريكية غنمها التنظيم في الموصل. ومع استمرار المعارك، استطاعت مجموعات “داعش” التقدُّم واستعادة السيطرة على قرية سويدان جزيرة، ليتراجع مقاتلو الشعيطات إلى أطراف قريتي أبو حردوب والجرذي وسط اشتباكات عنيفة على محور بادية أبو حمام([85]).
والحدث الأبرز في هذا اليوم تمثّل بخروج مجموعات مدنية بطريقة مرتجلة وغير مُنظَّمة (تجار نفط سابقين، عمال في الحرَّاقات أو في النقل، وغيرهم)، للسيطرة على بعض آبار النفط المتفرقة في بادية الشعيطات، والتي انسحب منها عناصر “داعش” في إطار إعادة التموضع والتمركز في حقل “التنك”. كانت تلك المجموعات تعتقد أنّ التنظيم فقد سيطرته على المنطقة في تلك الفترة، وأنه خرج بشكل نهائي من حقول النفط، فكان ذلك محفِّزاً أساسياً لخروجهم إلى المواقع النفطية ومحاولة إعادة تشغيل بعض الآبار التي كانت تسيطر عليها الفصائل سابقاً، ومن بعدها عناصر التنظيم مُعتبرين المرحلة الحالية فرصة، خصوصاً مع انشغال الطرفين بالمعارك، ولم يعلموا أن نهاية بعضهم ستكون لاحقاً في تلك المنطقة([86]).
بعد استقدام تعزيزات كبيرة وتكثيف القصف، تمكَّنت قوات “داعش” من التقدُّم واستعادة السيطرة على قريتي الجرذي الشرقي والغربي([87]) بعد اشتباكات عنيفة أدَّت إلى انسحاب مقاتلي الشعيطات في اتجاه أبو حمام حيث تركَّزت الاشتباكات على أطرافها عند محور الصنور. وعند سيطرتهم على الجرذي نفَّذَ عناصر “داعش” إعدامات ميدانية بحق بعض المدنيّين من الشعيطات بعد اعتقالهم أثناء مرورهم في قرية الجرذي. بينما شهدت قرية سويدان جزيرة في هذا اليوم عودة جزء من سكانها بعد نزوحهم قبل أيام بسبب الاشتباكات التي انتهت بسيطرة التنظيم على القرية([88]).
وتجدر الإشارة إلى أنه في هذا اليوم بدأت تنتشر إشاعات حول احتمال عودة السلاح الثقيل ومجموعات الشعيطات العسكرية التي انسحبت إلى القلمون عقب سيطرة “داعش” على محافظة دير الزور، وذلك لمساندة أقاربهم في المعركة، ولكن هذه الإشاعة ستبقى وهماً حتى رحلة متأخِّرة. ولعلَّ مصدر الإشاعة في هذا اليوم كان إعلان فصائل وألوية دير الزور المُهجَّرة، عن تشكيل “جيش أسود الشرقية” في القلمون، والذي حدد هدفه الرئيسي بمحاربة “داعش”، وكانت مجموعة الشعيطات المنسحبة على رأسه([89]).
بدأ التنظيم هجوماً عنيفاً بعد استقدامه تعزيزات من الشدادي في محافظة الحسكة([90])، فتجددت الاشتباكات على أطراف قرية الجرذي الشرقي، بينما تركَّزت المعارك الأعنف في أبو حمام وسط محاولة تسلّل من جهة أبو حردوب عبر نهر الفرات، تصدى لها مقاتلو الشعيطات. وقد أدّى القصف المكثَّف في هذا اليوم إلى موجة نزوح واسعة للمدنيين من بلدات الشعيطات، على الأخصّ من أبو حمام.
وفي هذا اليوم دخل العنصر الأجنبي بشكل واضح على خطّ المعارك، إذ شاركت مجموعات من المقاتلين القازاق والأوزباك والشيشان وغيرهم، إضافة إلى كتيبة “البتّار” الليبية التي كانت سمعتها بالقتل والترهيب قد سبقتها. ويبدو أنّ “داعش” تعمَّد إدخالها في هذا التوقيت بعد فشل القوات المحليّة في الأيام السابقة([91])، ناهيك عن بثّ الإشاعات لبثّ الذعر حول قوة الكتيبة وإمكانية إحداثها فرق في المعارك. ولأوّل مرّة استعان “داعش” بالانتحاريّين. في هذا اليوم أيضاً بثَّ “داعش” صوراً لمدنيّي الشعيطات الذين أعدمهم في قرية الجرذي في اليوم السابق، بعد فصل رؤوسهم عن أجسادهم وعرضها في الطريق العام([92]). كما منع سكان قريتي أبو حردوب والجرذي الشرقي من العودة إليهما بعدما هجّرهم إثر سيطرته عليهما في اليوم السابق، وذلك بسبب انضمام بعض بعضهم كمقاتلين إلى قوات الشعيطات أثناء تقدّمهم، ولم يسمح بعودة المهجَّرين حتى منتصف أيلول/سبتمبر العام 2014([93]) بعد اشتراطه على كل قرية تسليم كميّة معينة من السلاح.
في هذا اليوم أيضاً قصف الطيران الحربي التابع لجيش نظام الأسد موقعاً لعناصر “داعش” في قرية الجرذي. وقد مثَّلَت تلك الغارة مسألة إشكاليّة في هذا السياق، إذ حاولت وسائل إعلام النظام ووسائل التواصل الاجتماعي المؤيدة له الإيحاء بأن تلك الغارة نُفِّذَت لدعم مقاتلي الشعيطات بشكل خاص، إلا أنها فعلياً كانت جزءاً من سلسلة غارات بدأ النظام تنفيذها منذ سيطرة “داعش” على المحافظة وهزيمة خصومه من الفصائل المحلية. فبعد تلك الهزيمة لم يبقَ لـ”داعش” من عدوٍّ في المحافظة سوى “النظام”. ولذلك يبدو العكس صحيحاً خصوصاً وأن “داعش” كان يجهِّز خلال تلك الفترة لمعارك المطارات ضد قوات النظام، سواء مطار دير الزور العسكري أو مطار الطبقة، فكان الهدف من تلك الغارات إضعاف مواقع “داعش” في مختلف أرجاء المحافظة والمنطقة الشرقية وليس في الشعيطات وحسب. وبمراجعة سِجِل الغارات التي نفَّذَها الطيران الحربيّ في هذا اليوم، يتبيَّن أنها شملت العديد من مواقع “داعش” ضمن عدة مدن وبلدات في دير الزور بعيدة عن الشعيطات، ولم يكن فيها أي مقاومة مُسلَّحة لـ”داعش”، كالزر والقورية والبصيرة والبوكمال وغيرها([94]).
كما استهدفت غارات النظام المكثَّفة ومدفعيّته قبل ذلك بيوم واحد ريف دير الزور الغربي ما أدّى إلى نزوح حوالى 5000 مواطن من قرى عياش الخريطة وحوايج ذياب، أغلبهم من النساء والأطفال إلى مناطق الزغير شامية والشميطية قرب نهر الفرات، إضافة إلى استهداف مواقع “داعش” في قرية الطيانة ما أدّى إلى سقوط قتلى مدنيّين في محيط الموقع بينهم أطفال([95]). وستستمر تلك الغارات إلى مرحلة متأخّرة متجاوزةً قضية الشعيطات، أما سياقها الإشكالي الخاص بانتفاضة الشعيطات فسيتكرّر في يوم واحد لاحقاً، حيث ستبرز أكثر محاولات النظام في استقطاب عشائر ريف دير الزور بشكل عام والشعيطات بشكل خاص، كخطّ دفاع أول في معركته العسكريّة مع “داعش”([96]).
مع بداية هذا اليوم انفتحت خطوط اتصالات بين الطرفين، بوساطة من بعض القيادات الميدانية من أبناء الشعيطات المبايعين لـ”داعش”، والذين لعبوا دور الوسيط المنحاز للتنظيم، على رأسهم أبو سيف الشعيطي وجعفر الخليفة. تركّزت مطالب التنظيم في تلك الفترة على تسليم قائمة بأسماء كل من شارك في القتال، إضافة إلى تهجير المدنيين خارج قراهم لمدة أيام([97])، ليمشِّط التنظيم في خلالها القرى ويؤمّنها، وضمان عدم تقديم مساعدات للمقاتلين أو دخول متطوّعين جدد على خط المعركة. وقد أصرّ التنظيم على تلك المطالب خصوصاً وأنه سيطر حديثاً على المنطقة وكان متخوّفاً من انتقال عدوى انتفاضة الشعيطات إلى العشائر والقرى المجاورة.
رفض وجهاء الشعيطات ومقاتلوها تلك الشروط، ما تعلّق منها بالتهجير أو بتسليم أسماء الشباب المقاتلين، وقد بلغ عددهم في تلك الفترة حوالى 200 مقاتل، منهم 100 مقاتل فعليّ على الخطوط الأمامية، والباقي كانوا على الخطوط الخلفية أو ضمن أحيائهم ومناطقهم([98]). أدّى ذلك إلى فشل أي محاولة للتفاوض، في حين آثرت بعض العوائل من المدنيين النزوح خارج قراهم تجنباً لما قد يحصل، خصوصاً بعد القصف المكثَّف الذي استهدف أبو حمام في هذا اليوم، من جهتي البادية ونهر الفرات، وسط استمرار الاشتباكات العنيفة.
وسط اشتداد المعارك فوجئ سكان بلدات الشعيطات ببثّ التنظيم صوراً تظهر إعدامه الـ 26 مدنياً من موظفي النفط الذين اعتقلهم بتاريخ 30 تموز/يوليو 2014، وذلك بإطلاق النار والذبح بالسكاكين في مكان مفتوح ضمن البادية([99])، تلك المجزرة التي لن يكتشف موقعها إلا بعد ست سنوات([100]). وبعد انتشار الصور عمّت حالة غضب دفعت بالمزيد من المتطوّعين إلى الالتحاق بالمجموعات المقاتلة في أبو حمام، خاصة من أقارب وذوي الموظفين، وهو ما زاد أعداد المقاتلين في تلك الفترة.
أما على المستوى الميداني فقد استأنف “داعش” قصفه العشوائي على بلدة أبو حمام، مستهدفاً جبهات القتال وبعض المنازل والمدارس، ما أدى إلى إصابات في صفوف المدنيين، وموجة نزوح لسكان أبو حمام باتجاه قرى البوكمال أو على الضفة الأخرى من النهر (شامية) ([101]). وتحت غطاء من القصف تقدّمت قوات “داعش” والمجموعات الأجنبيّة راجلة، وعلى رأسها كتيبة “البتار” الليبية التي تعرضت لكمين خسرت فيه حوالى 20 عنصراً بين قتيل وجريح، وأُسر 15 عنصراً تقريباً بينهم قُصَّر زجّ بهم التنظيم في المعارك([102]). ولم تمضِ ساعات حتى كرّر عناصر “داعش” الهجوم مرة أخرى مستعملاً سيّارات الهامر والمصفَّحات وهو ما أدّى إلى انهيار خط الدفاع الأول لقوات الشعيطات.
مع تراجع المقاتلين وتقدّم “داعش”، بدأ التحشيد في بلدات الشعيطات لمساندة مقاتلي أبو حمام، عبر المساجد وصفحات التواصل الاجتماعي، فخرج رتل عسكري من متطوّعي بلدة غرانيج في اتجاه أبو حمام([103]). تعرَّض الرتل لقصف “داعش” في منتصف الطريق، فاضطرّ قسمٌ منه إلى التراجع والعودة فيما وصل قسمٌ آخر إلى أبو حمام، حيث أُقيم خطّ دفاعٍ ثانٍ. وبلغ عدد مقاتلي قوّات الشعيطات حوالى 250 عنصراً. وفي معارك هذا اليوم ظهر على جبهة مقاتلي الشعيطات، ولأول مرة، مدفع 57 ، لكنه لم يُحدِث فرقاً كبيراً بسبب النقص في ذخيرته([104]).
استمرت الاشتباكات بشكلٍ عنيف وسط قصف مكثَّف استهدف بلدة أبو حمام، والتي بلغ مُعدَّل النزوح فيها في تلك الفترة حوالى 70%، فيما بقي الـ 30 % على أطرافها البعيدة عن خط الجبهة. كما شهد هذا اليوم أيضاً تصاعداً في نزوح المدنيين من بلدات الشعيطات الأخرى في اتجاه قرى البوكمال حيث اعتقلت دوريات “داعش” عدداً منهم في قرية البحرة، وتبيّن لاحقاً أنهم أُعدموا على الفور([105]). وابتداءً من هذا اليوم تواصلت حملات الاعتقال التي استهدفت نازحي الشعيطات في قرى البوكمال.
تمثَّل الحدث الأبرز في هذا اليوم بهجوم عناصر “داعش” على آبارٍ نفطية متفرّقة منها بئر الملح، بعد أن كانوا قد انسحبوا منها في اليوم الثالث من المعركة وسيطرت عليها مجموعات مدنية من الشعيطات في اليوم الرابع. وفي هذا الهجوم اعتقل التنظيم حوالى 20 مدنياً ممن استأنفوا عملهم في الآبار النفطية، بينما فرَّ العدد الأكبر، وبقي مصير المعتقلين مجهولاً لأسابيع قليلة قبل أن يبثَّ التنظيم لاحقاً إصداراً مصوَّراً يظهر عمليات إعدام فردية لبعضهم في محيط بئر الملح([106]).
كان هذا اليوم مفصليّاً في سياق تطوّر الأحداث، إذ كثَّف التنظيم من قصفه ونفَّذَ هجوماً عنيفاً على بلدة أبو حمام من محورين، ما أدّى إلى انهيار قوات الشعيطات وخسارتها نصف القرية والتراجع إلى منطقة “القهاوي” وسط أبو حمام. كان لهذا التراجع أسباب عدة في تلك الفترة، أوّلها نقص الذخائر والأسلحة الثقيلة، ونقص أعداد المقاتلين الذين لم يستطيعوا تغطية كل الجبهات أو الاستراحة والتبديل مع غيرهم. إضافة إلى زيادة الإصابات والنقص في المستلزمات الطبّية، واستحالة نقل الجرحى إلى مناطق أخرى لإسعافهم بعد مداهمة عناصر “داعش” المستشفيات، ناهيك عن القصف المُكثَّف وما تسبب به من نزوح لعائلات المقاتلين، ما اضطر بعضهم إلى تأمين خروج عائلته ثم العودة إلى جبهات القتال([107]).
في المقابل كان لتراجع المعنويات أثر كبير، خصوصاً مع عدم تدخل أي طرف داعم بعد عشرة أيام من المعارك، سواء دوليّ أو محليّ، باستثناء دعم فردي محدود من بعض العشائر المحيطة بالشعيطات، من أبناء عمومتهم “العقيدات”، تمثَّل بعدة أشكال، منها الدعم السرّي ببعض الأسلحة والذخائر كما فعلت قرية الشعفة، أو ببعض المقاتلين الذين انتفضوا في قراهم كقرية أبو حردوب والجرذي وسويدان والعشارة. إلا أن أشكال الدعم تلك لم تكن مؤثِّرة في تغيير مجريات المعركة، مع عدم قيام تحرك عسكري عشائري فاعل وداعم للشعيطات من محيطهم، خصوصاً وأنّ التنظيم كان قد عمل على استقطاب قيادات من مختلف العشائر، ما أدى إلى انقسامات حادّة في المواقف، ناهيك عن سيطرته حديثاً على أغلب القرى التي شكَّلت مراكز مقاومة، وتهجير سكانها وفصائلها أو نزع سلاحهم أو عقد اتفاقات معهم، إضافة إلى انتشار عناصره في مختلف القرى وتخوّف سكانها من بطشهم.
فرض تقدم عناصر “داعش” وتراجع مقاتلي الشعيطات في هذا اليوم حركة نزوح كبيرة لمن تبقى من المدنيين في أبو حمام، ما أدّى إلى إفراغها بشكل شبه كامل، بعد تحذير المقاتلين للمدنيّين من احتمال نقص الذخائر والعجز عن المقاومة. وبدأت حركة النزوح الجماعية لخارج مناطق الشعيطات، خصوصاً مع تخوّف المدنيين من انتقال المعارك إلى سائر البلدات، ما أدى إلى نزوح عوائل من الكشكية وغرانيج أيضاً، وكانت قرى وبلدات البوكمال الوجهة الأولى في تلك الفترة، وتحديداً الشعفة والسوسة وهجين والبحرة([108]).
وسط حركة النزوح الكبيرة، وصلت أخبار إلى مقاتلي الشعيطات عن احتمال هجوم يُنفّذه عناصر “داعش” على غرانيج بغية فرض حصار على المقاتلين المتواجدين في أبو حمام، ما دفع مقاتلي الشعيطات إلى نصب حواجز في محيط غرانيج من جهتي البادية والبحرة. وبالفعل وقع أول هجوم من التنظيم مساء هذا اليوم بسيارة مفخخة يقودها أبو مجاهد الجزراوي الذي فجَّر نفسه والسيارة بحاجز على طريق البحرة، ما أدى إلى مقتل ستة عناصر من الحاجز وإصابة عدد من المدنيين([109])، وقد سهَّل مرور المفخّخة فوضى النزوح وخروج عدد كبير من السيارت التي تقل النازحين.
في هذا اليوم أيضاً، نفَّذَ الطيران الحربي التابع لقوات النظام غارتين في محيط بلدات الشعيطات، استهدفت إحداها مقراً لـ”داعش” في مدرسة المروانية، وأخرى استهدفت مرابض مدفعيّته في منطقة دوير، وكانت تلك الغارات كسابقتها جزءاً من سلسلة غارات نُفِّذَت ضد عدة مواقع لـ”داعش” في مدن وبلدات دير الزور في هذا اليوم. لكن ماكان لافتاً هذا المرة هو عثور سكان بلدات الشعيطات قبيل الغارات على منشورات ورقية في الشوارع، تضمنت عبارات دعم وتشجيع على مواصلة القتال، وذُيّلت باسم القوات المسلحة السورية. ولم تقتصر تلك المنشورات على مناطق الشعيطات، وإنما أُلقيت في العديد من مدن وبلدات الريف الشرقي وتضمنت إحداها تشجيع مختلف عشائر هذا الريف (العقيدات) وتذكيرهم بتاريخهم النضالي ومخاطبتهم بنخواتهم العشائرية ومطالبتهم بالانتفاض ضد عناصر “داعش”([110]). ويرجِّح بعض سكان المنطقة بأن الطيران المروحي ألقى هذه المناشير، فيما يعتقد القسم الأكبر أنّ مخبري النظام في المنطقة رموها سرّاً في الشوارع.
لم تكن تلك المنشورات ذات قيمة بالنسبة إلى الشعيطات أو عشائر الريف الشرقي من دير الزور، خصوصاً مع إدراك أغلبيتهم أنّ مصدرها هو نفسه الذي ساهم بقصفهم بمختلف أنواع الأسلحة في السنوات الماضية، إضافة إلى طغيان نزعة معارضة النظام على أغلب عشائر وقرى هذا الخط. وبالرغم من ذلك، استطاعت تلك المنشورات ونشاط مخبري النظام في تلك الفترة أن يُحدث لغطاً في المنطقة على عدّة مستويات. فبالنسبة إلى المجموعة المقاتلة في أبو حمام، تأثَّر أفراد منها وطالبوا البقية برفع العلم السوري (المعتمد من قبل النظام) كمحاولة للحصول على تغطية جوية، إلا أن هذا المطلب رُفِضَ من الأغلبية المقاتلة، باعتبارها معارضة للنظام والعديد من أفرادها خاضوا معارك طاحنة معه في السنوات الماضية. أما بالنسبة إلى عناصر “داعش” فقد شكّلت تلك المنشورات ذريعة لإضافة صفة جديدة إلى مقاتلي الشعيطات باعتبارهم “عملاء للنظام السوري”([111]). وبالنسبة إلى نظام الأسد، وإضافة إلى الهدف العسكري الرامي إلى إضعاف مواقع التنظيم في المحافظة، مثَّلت تلك المنشورات وما تلاها من غارات، محاولة من النظام لاستمالة العشائر في هذا الريف، خصوصاً بعد خروج فصائل المعارضة من المحافظة، ومحاولة استقطابهم كخط دفاع أول في معاركه مع “داعش”. إلا أن تلك المحاولة لم تنجح على المستوى الشعبي، ولم تكن مؤثِّرة على مسار المعركة العسكرية الدائرة بين الشعيطات و”داعش”، خصوصاً وأنها كانت ترمي إلى أهداف عسكرية وسياسية تتخطّى قضية الشعيطات([112]).
وسط حركة النزوح واستمرار الاشتباكات، تسلَّلَ عصراً عناصر “داعش” خلف خطوط مقاتلي الشعيطات من جهة غرانيج والكشكية، ونصبوا فيهما مدافع “هاون” ونشروا قناصات على الأبنية المرتفعة، الأمر الذي عقَّدَ الوضع أكثر على المقاتلين المتواجدين في أبو حمام، وفرضَ عليهم شبه حصار مع الإبقاء على جهة نهر الفرات كمنفذ وحيد للانسحاب، وهو ما أدى إلى انهيار القوات وانسحابها بشكل مجموعات من الكشكية وأبو حمام في اتجاه غرانيج وقرى البوكمال، إذ تمركزت بعض المجموعات في غرانيج بقيادة عبد الباسط المحمد، في حين انسحب القسم الأكبر إلى قرى البوكمال، حيث لم يبقَ فرصة للمقاومة، فعملوا على إلقاء السلاح والتخفي بين المدنيين([113]).
من جهة أخرى، وفي خضم التطورات العسكرية، توجَّهَ وفد من وجهاء الشعيطات إلى منطقة القائم العراقية، للقاء والي التنظيم المسؤول عن المنطقة ومحاولة الاجتماع بأبي بكر البغدادي، في مسعى للتوسُّط والتماس العفو عن المدنيين. إلا أنه وبعد انتظار، لم يسمح للوفد بلقاء أي من الشخصيات المذكورة، وإنما التقاهم قيادي ميداني في التنظيم ليبلغهم برفض أي محاولة توسُّط، مؤكداً أنّ بلدات الشعيطات ستُقتَحَم، قبل أن يطلب منهم المغادرة فوراً([114]). وفي هذا اليوم بدأت بعض وسائل الإعلام تبثّ الأخبار حول سيطرة “تنظيم الدولة” على منطقة الشعيطات([115]). كما داهم “داعش” بعض المدارس التي يقطنها نازحو الشعيطات في قرية الشعفة/البوكمال، واعتقل العشرات وأعدم سبعةً منهم تقريباً، ونقل الباقين إلى سجون في العراق بحسب شهادات ميدانية.
مع انسحاب قوات الشعيطات، دخل عناصر التنظيم الكشكية وأبو حمام، وبدأوا بتمشيطها وتفتيشها منزلا منزلاً. في هذه الأثناء لم يبقَ أحد في القرى باستثناء بعض رجال الدين الذين احتموا في المساجد، والقليل من كبار السن والنساء الذين بَقَوا لحماية منازلهم، إضافة إلى بعض ذوي الاحتياجات الخاصة. ومع ذلك نفّذ عناصر التنظيم في بعضهم عمليّات إعدام وصوّرها، وقد سُرِبَت الصور لاحقاً([116]).
بعد السيطرة على الكشكية وأبو حمام، نفَّذَ “داعش” عصر اليوم هجومه من جهة البادية على بلدة غرانيج، والتي لم يبقَ فيها سوى ثلاث مجموعات صغيرة لا تتجاوز 40 مقاتلاً ممن انسحبوا من أبو حمام. حاولت تلك المجموعات المقاومة، لكن من دون نتيجة بسبب عدم تكافؤ القوة، وهو ما أدى إلى انهيارهم وانسحابهم في اتّجاه هجين، بعد التخلص من السلاح سواء بطمره في الأرض أو بإلقائه في نهر الفرات([117]). في المقابل أصدر بعض وجهاء غرانيج في هذا اليوم بياناً مصوّراً ومكتوباً طالبوا فيه بالعفو عن المدنيّين وتبرّأوا من المجموعات المقاتلة([118])، إلا أن البيان لم يلقَ أي صدى وسط حركة نزوح كبيرة من غرانيج في اتّجاه قرى البوكمال، أدَّت إلى إفراغ البلدة بشكل شبه كامل، ليعلن “تنظيم الدولة” في هذا اليوم سيطرته على كامل بلدات الشعيطات الخاوية من سكانها، بعد 12 يوماً من المعارك المتواصلة. تلك السيطرة التي لن تكون نهاية الحدث وإنما البداية لمسار أكثر دمويّة.
تجدر الإشارة، وبحسب شهادات مقاتلين خاضوا المواجهات على مدار الأيام السابقة، إلى أنّ عدد مقاتلي الشعيطات مِمَّن سقطوا في المعركة بلغ 23 شخصاً تقريباً، فيما جُرِح العشرات. ولم تتوفَّر معلومات عن عدد القتلى من طرف “داعش”، خصوصاً وأنّه لا يعلن عن خسائره في نهاية المعارك. أما من تبقّى من المقاتلين فقد تفرَّق القسم الأكبر منهم وتوزَّعوا في مختلف المناطق، فيما حوصرت مجموعة صغيرة في البادية بقيادة عبد الباسط المحمد، ما دفعها إلى العبور إلى مناطق النظام واستكمال الحرب لاحقاً مع “داعش” تحت راية النظام وروسيا. وقد التحقت مجموعة أخرى في وقت لاحق بقوات “سوريا الديمقراطية” (قَسَد) في حربها المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية ضد “داعش”، في حين انضم عناصر آخرون إلى مجموعات الشعيطات المقاتلة في صفوف المعارضة السورية، والتي خاضت معارك ضد “داعش” في القلمون والبادية وغيرها من المناطق.
مع إحكام “داعش” السيطرة على مناطق الشعيطات، انتقل مسرح الحدث إلى قرى وبلدات البوكمال، حيث تركز نازحو الشعيطات المدنيّين، والذين سيطرت عليهم حالة من الرعب والترقُّب حول مصيرهم، خصوصاً بعد تنفيذ عناصر التنظيم عدة مداهمات أدَّت إلى اعتقالات واسعة في صفوفهم في الأيام الأخيرة من المعركة، ومع تناقل الأخبار والشهادات والصّور حول تنفيذه عشرات الإعدامات الميدانية، إضافة إلى استقدامه في يوم 12 آب 2014 قوات عسكرية كبيرة، رتل، إلى قرى البوكمال، بهدف إعادة الانتشار وتعزيز السيطرة وإنشاء نقاط تفتيش وحواجز، وملاحقة من تبقّى من مقاتلي الشعيطات الفارّين إلى المنطقة.
تركَّزت النسبة الكُبرى من نازحي الشعيطات المدنيّين في قرى وبلدات البحرة والشعفة والسوسة وهجين وغيرها، حيث انتشروا في المدارس والخيام والطرقات والأكواخ والأبنية المهجورة أو عند أقاربهم أو بعض العوائل التي فتحت بيوتها لاستقبالهم، وسط ظروف إنسانية قاسية شابها هدوء نسبي حذر في الأيّام الأولى بعد انتهاء المعارك، وقد استمرَّت الاعتقالات في بعض قرى البوكمال([119]). لم يدم هذا الهدوء طويلاً، إذ عاد التنظيم وأطلق في يوم 13 آب 2014 حملة مداهمات عنيفة بقيادة كتيبة “البتار” الليبية ومجموعات أمنية من المحليّين، استهدفت تجمعات النازحين، بخاصة في هجين والبحرة والشعفة التي تركَّز فيها القسم الأكبر منهم، باعتبارها الأقرب جغرافياً إلى مناطق الشعيطات، وانتهت الحملة باعتقالات عشوائية طالت مئات الرجال والشبّان المدنيّين، من دون أي تهم سوى أنّهم من الشعيطات، كما تخللها إعدامات ميدانية عشوائية للعديد منهم قبل وصولهم إلى أماكن الاحتجاز([120]).
تصاعدت الحملة في اليوم التالي بشكل أعنف مستهدفة أماكن تجمع النازحين المدنيين في المدارس والخيام والمنازل، إضافة إلى الاعتقالات على الحواجز التي نشرها التنظيم على مختلف الطرق الرئيسية، خصوصاً على حاجز “الجعابي” بين هجين والبحرة، وكذلك حاجز الشعفة، إضافة إلى حاجز “الصالحية” (خط الشامية)، الذي كان عناصره يلقون القبض على أبناء الشعيطات ممن حاولوا الفرار إلى دمشق. جرت تلك الاعتقالات على الهوية، أي كلّ هويّة حملت اسم إحدى البلدات الثلاث، غرانيج أو كشكية أو أبو حمام، أو بناءً على وشاية المخبريين المحليين الذين انتشروا في صفوف التنظيم، وساهموا بالتعاون مع المجموعات الأجنبية في اعتقال أعداد كبيرة من نازحي الشعيطات.
وبحسب شهادات النازحين من ذوي الضحايا، تخلّلَ تلك الاعتقالات عمليات قتل فورية وإعدامات ميدانية، في المدارس التي حوّلها “داعش” أماكن احتجاز مؤقَّت، يُنْقَل إليها المعتقلون من الحواجز الأقرب، كحاجز الشعفة الذي اعتقل أعداداً كبيرة من أبناء الشعيطات بمن فيهم بعض الأطفال، وأودع قسماً منهم في مدرسة قريبة شهدت تنفيذ عدة إعدامات لرجال وشباب. أو على حواجز أخرى أوقفت العشرات من الشبان واقتادتهم لإعدامهم في أماكن مفتوحة لا تبعد كثيراً عن المكان. يُضاف إلى ذلك نشاط الدوريات التي داهمت خيام النازحين واقتادت أفراداً أو عوائل بأكملها من الذكور لتقتلهم على مسافة لا تبعد أكثر من كيلومترٍ واحد عن مكان الاعتقال، وقد ترك بعضهم حيث قُتِلوا بعد تنفيذ الجريمة. وصار بعض أهالي الضحايا ينتظرون غياب الشمس لكي يتسنّى لهم التسلل خلسة وسحب جثث ذويهم ودفنها بشكل سريّ وسريع، خصوصاً بالنسبة إلى الذين سمعوا إطلاق النار بعد دقائق من الاعتقال وعلى مسافة قريبة، علماً أنّ نسبة كبيرة من ذوي الضحايا في تلك الفترة لم تتمكن من معرفة مصير أبنائها([121]).
أدَّت تلك الظروف بما حملته من مشاهد حيّة وأخبار متناقلة بين النازحين وصور و”فيديوهات” مُسرَّبة، إلى تخوّف وهروب أغلب الرجال والشباب من المنطقة، أو إلى اختبائهم في البادية أو الأراضي الزراعية على ضفتي نهر الفرات أو في المنازل. ومنهم من سلك طرق فرعية أو استعمل أوراقاً مزوَّرة للخروج إلى مناطق أخرى([122]). وفي اليومين الأوّلين من الحملة فاقت أعداد معتقلي الشعيطات من المدنيين الـ500 من الرجال والشباب وبعض القُصَّر، من دون معرفة أي معلومة عن مصيرهم لاحقاً، باستثناء العشرات الذين استطاع ذووهم الوصول إلى جثثهم والتأكد من مقتلهم. وقد نشر “داعش” في تلك الفترة صوراً لأعداد كبيرة من المعتقلين المحتجزين في أماكن مختلفة، أو محمّلين في سيارات تابعة له، إذ كان ينقل بعضهم إلى مراكز احتجاز استُحدِثَت في بلدات الشعيطات الخاوية من سكانها، أو إلى أماكن سيطرته الأخرى في محافظة دير الزور كحقل العمر النفطي وغيره([123]).
استمرت الاعتقالات وتوسَّعت رقعتها لتتجاوز قرى البوكمال، وتطال نازحي العشيرة في مختلف أماكن سيطرة التنظيم ضمن محافظة دير الزور، كالميادين والعشارة وغيرها. كما أصدر “داعش” تعميمات باعتقالهم على الحواجز في باقي المحافظات السورية التي أخضعها له في تلك الفترة، كالرقة وريفَيْ الحسكة وحلب، حيث اعتقل عدداً منهم أثناء محاولتهم الهروب. كما حذَّر التنظيم سائقي سيارات النقل المّتجهة إلى دمشق من نقل مطلوبي الشعيطات بأوراق مزوَّرة، وتوعَّدهم بحرق السيارة وقتل صاحبها في حال نقل أحدهم، حتى بات اسم الشعيطات تهمة بحدِّ ذاتها، تستدعي القتل لمن يتستَّر عليهم أو يؤوي الذكور والمطلوبين منهم، خصوصاً بعد التحذيرات التي أطلقها “داعش” لبعض القرى، كالشعفة، من إيواء المطلوبين منهم والتهديد بقتل كل من يتستّر عليهم([124]). وقد سُجِّلَت عدة حوادث اعتقال وقتل مدنيّين من عشائر وقرى أخرى، لمجرد استضافتهم نازحين أو مطلوبين من الشعيطات، إذ قام بعضهم بالاشتباك مع عناصر “داعش” لمنعهم من اعتقال الضيوف، بحكم الأعراف العشائرية في المنطقة، ما أدى إلى مقتلهم وهدم منازلهم، في حين اعتُقِلَ البعض الآخر أو قُتِل مع من كان يستضيفه من الشعيطات. وقد تمنّعت عوائل كثيرة في بعض القرى عن استقبالهم خوفاً ممّا قد يستتبعه ذلك من تنفيذ التهديدات.
ومع استمرار حملات المداهمة وارتفاع أعداد المعتقلين والمفقودين وتصاعد حالات القتل الجماعي الموثَّقة عبر شهود العيان أو تسجلات “الفيديو” المُسرَّبة عن عناصر “داعش” أو غيرهم من المدنيين، بدأت تتحدّث المراصد الحقوقية المحلية ووكالات الأنباء الدولية في تلك الفترة عن “تقديرات” لأعداد الضحايا ذاكرة سقوط 700 قتيل واختفاء أكثر من 1800 شخص([125]). وبناء على هذا الواقع، ناشد أكثر من 40 وجيهاً من الشعيطات (الكشكية وأبو حمام) بتاريخ 16 آب/أغسطس العام 2014 عبر تسجيل مصوَّر، أمير “تنظيم الدولة” أبو بكر البغدادي إيقاف قتل المدنيّين الأبرياء([126]). إلا أن تلك المناشدات لم تلقَ أي صدى، ليستمر خطّ المجزرة في التصاعد، وتستمر معه مأساة المدنيين النازحين من الشعيطات، والتي زادت من وطأتها ظروف عدة ، منها نقص الأغذية والمواد الطبية وسط درجات حرارة مرتفعة في تلك الفترة، إضافة إلى عدم توافر المساكن أو ضيقها بسبب تجمع عوائل عدة في مساحات صغيرة، وتكرّر تجربة النزوح مع أغلبية المُهجَّرين الذين تنقَّلوا من قرية إلى أخرى في فترة قصيرة بحثاً عن الأمان، ناهيك عن انعدام القدرة المادية ومستلزمات المعيشة، خصوصاً بالنسبة لمن قطن الخيام أو الأبنية المهجورة، وهو ما دفع البعض منهم إلى محاولة التسلل في الأيام الأولى إلى بلداتهم بهدف جلب بعض الأغراض واللوازم الضروريّة من منازلهم كالأغطية وغيرها، ما أدّى إلى اعتقالهم وقتلهم فوراً، خصوصاً بعد إعلان التنظيم بلدات الشعيطات منطقةً عسكرية([127]).
زاد من تلك المأساة، حالات الحزن واليأس التي تملَّكت نفوس أهالي المفقودين والضحايا، خصوصاً عند الذين عرفوا أماكن قتل ذويهم وعملوا على دفنهم ليلاً، وحرموا من إقامة مجالس العزاء أو حتى التعبير عن حزنهم، فكثير من النساء تجنبن حتى الصراخ أو البكاء خوفاً من سماع أصواتهن أثناء عمليّة الدفن السريّة، في حين قامت بعض العوائل بدفن أبنائها بشكل بدائي وعلى عجل خوفاً من أي دوريات محتملة لعناصر “داعش”، بينما بقيت النسبة الأكبر تجهل مصير ذويها. وقد تحمّلت نساء الشعيطات العبء الأكبر في تلك الفترة، سواء من ناحية البحث عن أبنائهن وأزواجهن والتوجه إلى مقرات “داعش” المختلفة للسؤال عنهم ومحاولة تحصيل أي معلومة، لكن دون جدوى. أم من ناحية تأمين أبسط الاحتياجات اليومية بسبب اعتقال الرجال أو اختبائهم وعدم تمكّنهم من الخروج خوفاً من المداهمات والقتل([128]).
وفي الوقت الذي تركَّزت فيه مشاهد الاعتقالات والمداهمات المتصاعدة في بعض قرى البوكمال، مثَّلت بلدات الشعيطات الخالية من سكانها مسرحاً موازياً للمجزرة، حيث تحوّلت غرانيج والكشكية وأبو حمام في تلك الفترة إلى وجهة يُنقَل المعتقلون إليها من قرى البوكمال، ويُجمَّعون في سجون استحدثها “داعش” في المدارس أو المنازل التي هجرها الأهالي، حيث تعرّضوا للتعذيب كما أُعدم بعضهم. وقد تسرَّب العديد من الصور ومقاطع “الفيديو” في تلك الفترة لمعتقلين فُصِلت رؤوسهم عن أجسادهم ولآخرين رُمِيَت جثثهم في الطرقات، كالصور التي سرَّبها بتاريخ 19 آب/أغسطس العام 2014 بعض المدنيين الذين تسللوا إلى حي معدان في غرانيج، وغيرها من الصور الأخرى التي انتشرت لاحقاً بواسطة عناصر التنظيم، من أحياء أبو حمام والكشكية وأطراف البادية([129]). كما شهدت المنطقة في تلك الفترة ممارسات بربرية من عناصر “داعش”، تمثَّلت بسرقة المنازل التي تركها سكانها، والتي بيعت مقتنياتها لاحقاً في بعض القرى كـ”غنائم مرتدين”([130])، إضافة إلى بثّ مقاطع مصوَّرة لتفجير بعض المنازل وهدم أخرى، خصوصاً منازل المطلوبين([131]).
ونتيجة استمرار الاعتقالات التي تجاوزت حصيلتها في تلك الفترة حوالى 2000 معتقل ومفقود، وما تخللها من ممارسات وحشية رسَمَت ملامح إبادة جماعية كثَّفَت الوفود العشائرية من وجهاء الشعيطات وغيرهم في 20 آب/أغسطس 2014 محاولاتها لإيقاف المجزرة، وانطلق عدد من الوجهاء وشيوخ عشائر إلى مقرَّات “داعش” الرئيسية في دير الزور، كالميادين والبوكمال وهجين وجديد عكيدات والطيانة وغيرها، إضافة إلى منطقة الكرامة في محافظة الرقة، وكذلك إلى الموصل في العراق([132]). كما صدَرَ بتاريخ 24 آب/أغسطس 2014 بيان مصوّر عن وجهاء وشيوخ عشائر دير الزور يناشدون فيه البغدادي العفو عن الشعيطات([133]).
ومع أن حراك الوفود العشائرية المكثَّف بين 20 و25 آب/أغسطس 2014 لم يتمكن من إيقاف حملة القتل والاعتقال العشوائي إلا أنه نجح نسبيّاً في خلق نوع من الجدل والانقسام بين قادة “داعش” في المنطقة، بعد أن اختلفت ردود أفعالهم حول مطالب الوفود بوقف القتل ورفع حكم “الردة المغلَّظة” عن مدنيّي الشعيطات المسلمين. إذ طَلَبَ قادة في التنظيم من بعض الوفود تسليم قوائم بأسماء كل من قاتلهم في المعركة لكي تُخفَّف الحملة، فكان رد الوجهاء بأنهم لا يعرفونهم ولا يستطيعون إحصاء أسمائهم. في المقابل، طَلبَ قادة أجانب آخرون من بعض الوفود والوجهاء مطالب غريبة لكن بديهية، تقضي بأن يتوجّهوا إلى بلدات الشعيطات ويصوّروا الجثث في الشوارع وكذلك المساجد في المنطقة، للتداول في المسألة والنظر فيها. وقد زوّدوا بعضهم بأمر مهمات رسمي يُسهّل حركتهم ويمنع التعرّض لهم، خصوصاً وأنّ بلدات الشعيطات في تلك الفترة أُعلِنَت منطقة عسكرية. وقد كان طلب تصوير المساجد في المنطقة بهدف نفي صفة “الردّة” عن الشعيطات ومحاججة سائر قادة “داعش” ممَّن أصدروا الفتوى ونفَّذوها في تلك الفترة، بأن الشعيطات هم مُسلمون([134]).
وفي أواخر شهر آب/أغسطس وبداية أيلول/سبتمبر 2014، بدا الخلاف واضحاً بين قادة “داعش” في المنطقة حول ما إذا كان يجب الاستمرار في الحملة أم لا، ودارت سجالات، شهدها بعض الوجهاء، بين قادة “داعش” سواء من المحليين أم من الأجانب، وقد انقسموا بين مؤيد للحدّ من الحملة ورفع حكم “الردة المغلَّظة”، وبين رافض لذلك([135]). وتجلى هذا الخلاف بشكل أوضح في التقسيمات الإدارية الجديدة التي استحدثها التنظيم لمحافظة دير الزور (ولاية الخير) حيث كان أغلب القادة المؤيدين لاستمرار الحملة يتبعون لهذه الولاية، بقيادة أبو أيمن العراقي المعيّن والياً عليها في تلك الفترة، بينما كان بعض القادة الرافضين لاستمرارها يتبعون “ولاية الفرات” التي أُعلِنَت هيكليتها بشكل رسمي بتاريخ 30 آب/أغسطس العام 2014([136])، بقيادة أبو أنس العراقي. وقد انعكست الخلاف في تلك الفترة على وتيرة القتل وطبيعة التعامل مع المعتقلين، فمن وقع من معتقلي الشعيطات ضمن ولاية “الخير” حيث تتواجد كتيبة “البتار” وبعض القيادات المحلية كعامر الرفدان وغيره، غالباً ما قُتِلَ فوراً أو تعرض للتعذيب الشديد. أما في ولاية “الفرات” فكان مستوى القتل العشوائي والتعذيب أقل نسبيّاً على المعتقلين الذين أفرج عن بعضهم لاحقاً بعد تزكيات من قيادات محلية ودفع مبالغ مالية أو تقديم قطع سلاح. إلا أن هذا الفرق بدأ يتضح في بداية شهر أيلول/سبتمبر العام 2014، أما قبل ذلك فقد أوغل الفريقان في قتل أبناء الشعيطات([137]).
توسَّعت دائرة الخلاف لتشمل قادة “داعش” في العراق خصوصاً بعد إرسال “ولاية الفرات” تقارير إلى “ديوان الخليفة”، توضّح بأن “الشعيطات مدنيّون مسلمون وأن من قاتل التنظيم منهم لا يشكلون إلا نسبة 10 % وهم من أعوان النظام السوري”. وقد أُرفِقَت تلك التقارير بصور للمساجد وجثث المدنيين في الشوارع، الأمر الذي دفع قيادة التنظيم/”ديوان الخليفة” إلى إرسال لجنة بقيادة المدعو أبو صهيب العراقي الذي وصل المنطقة أوائل شهر أيلول/سبتمبر مكلَّفاً بمعاينة الواقع وبالاجتماع مع قادة “داعش” من العسكريين والأمنيين والشرعيين، إضافة إلى وجهاء المنطقة، ومن ثم رفع تقارير مباشرة إلى أبو بكر البغدادي حول ملف الشعيطات وتفاصيله. وريثما يتم ذلك، صدرت أوامر بتخفيف حملة القتل العشوائي إلى أن تُنجز اللجنة أعمالها ويجري التداول في الأمر والبتّ فيه([138]).
وبناءً عليه انخفضت وتيرة المداهمات لتجمعات النازحين والمنازل والمدارس، لكنها لم تتوقف أبداً على الحواجز، خصوصاً بالنسبة إلى المطلوبين أو المشكوك في أنهم قاتلوا “داعش” هم أو أقاربهم. كما استمرت صور القتل وعمليات الإعدام الفردي والجماعي، التي تمت في الأيام السابقة، تظهر تدريجياً سواء مع عناصر “داعش” أنفسهم، أو مع مدنيّين تسللوا إلى مناطق الشعيطات، أو عبر سكان القرى المحيطة بهم، وآخرها في تلك الفترة شريط مصور نشر بتاريخ 30 آب/أغسطس العام 2014 يُظهِر عناصر “داعش” وهم يُعذّبون مجموعة من أبناء الشعيطات على جسر قرية الجرذي، ثم يحرقوهم، وهي الجريمة التي يرجَّح أنها نُفِّذت بين 12 و18 آب/أغسطس العام 2014([139]).
ومع منتصف أيلول 2014، والتراجع النسبيّ في وتيرة القتل والاعتقالات إثر وصول اللجنة، كان من المفترض أن تبدأ مرحلة جديدة أقل قسوة على الشعيطات من سابقتها. لكن ليس هذا ما حدث في الواقع، خصوصاً مع ما خلَّفته المرحلة السابقة من معتقلين ومفقودين بأعداد كبيرة والذين سيشكِّلون عنوان المرحلة الجديدة. فقد قدَّرَت “رابطة شهداء ومفقودي الشعيطات” أعداد الذين اعتقلوا أو اختفوا بين الثامن من آب/أغسطس ومنتصف أيلول/سبتمبر العام 2014، بحوالى 3000 مفقود ومعتقل من أبناء العشيرة، وزَّعَهم التنظيم على سجون مختلفة ضمن مناطق سيطرته في محافظة دير الزور، مثل قرى الشعيطات، الكشكيّة وغرانيج وأبو حمام، التي استحدَثَ فيها عدة سجون، إضافة إلى سجون أخرى في الميادين/البلعوم والبوكمال والشعفة والباغوز والبحرة والطيانة وذيبان وهجين وحقل التنك وحقل العمر، إضافة إلى اعتقال آخرين في سجون ضمن الرقة والحسكة، والعراق/الأنبار([140]).
شكّل المعتقلون عنوان المرحلة الجديدة من مأساة الشعيطات المستمرّة، خصوصاً مع تعرّضهم لمختلف أنواع التعذيب النفسيّ والجسديّ، بهدف انتزاع اعترافات حول المقاتلين الذين واجهوا “داعش” وأماكن إخفاء السلاح وتهم أخرى لم يقترفوها، ناهيك عن النظام الغذائي والطبي الذي شكل نوعاً آخرَ من التعذيب إلى جانب أعمال السخرة([141]). كما سيبقى مصير أغلبهم مجهولاً لفترة متأخّرة، وستُشكِّل نسبة كبيرة منهم فصلاً جديداً من فصول المجزرة الجماعية، خصوصاً وأنّ الكتلة الأساسية من ضحايا المجزرة هي من المدنيين الذين اعتُقِلوا في المراحل الزمنية السابقة.
وإلى جانب قضية المعتقلين شكّل ملف المهجَّرين الذين لا يزالون خارج بلداتهم، من سكان غرانيج والكشكية وأبو حمام، استمراراً لمشهد الكارثة، خصوصاً مع عدم وجود أي أفق لعودتهم إلى مناطقهم. ووفقاً لذلك، فرضت تلك المعطيات، منذ أوائل شهر أيلول/سبتمبر العام 2014 عدة مسارات على مستويات مختلفة. فمن ناحية الأهالي، هم واصلوا البحث عن أبنائهم المفقودين، سواء من المعتقلين أو الذين وردت شهادات بقتلهم من دون العثور على جثثهم، وسط هروب المطلوبين وغيرهم خارج بلدات الشعيطات بمختلف الوسائل مثل التهريب ورشوة عناصر “داعش” أو تزوير الأوراق أو سلوك الطرقات الفرعية. أما من ناحية الوجهاء فهم لم يتوقفوا عن التحرّك وتشكيل الوفود العشائرية وإطلاق المناشدات للإفراج عن المعتقلين واسترداد الجثث وإعادة المهجَّرين، بوساطة بعض عناصر وقيادات التنظيم المحليين من أبناء الشعيطات الذين تصدروا المشهد في تلك الفترة ولعبوا دور الوساطة للظهور بمظهر المنقذين والمخلِّصين لأبناء عشيرتهم. أما بالنسبة إلى التنظيم فقد واصل تعزيز سيطرته على المنطقة، إضافة إلى ملاحقة المطلوبين، وتنفيذ بعض عمليات الإعدام، ومنع النازحين من العودة. في حين بدأت “اللجنة” القادمة من العراق أعمالها واجتماعاتها مع أعضاء “داعش” في المنطقة من جهة، ومع وجهاء الشعيطات من جهة أخرى.
لم تنقطع المفاوضات بين وجهاء الشعيطات وقيادات “داعش” في المنطقة على طول الخط الزمني للمجزرة، وقد تكثّفت وتيرتها بعد وصول اللجنة من العراق وعقدها اجتماعات عدة في مناطق مختلفة من دير الزور، أفضت بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر العام 2014 إلى التوصل إلى “اتفاق نهائي” إثر مفاوضات في مدينة الرقة، حضرتها كطرف أوّل اللجنة المبعوثة من أبو بكر البغدادي، بحسب ما ورد في نص الاتفاق، وكطرف ثانٍ وجهاء من الشعيطات مُمَثِلين عن البلدات الثلاث، ممن ذُكِرَت أسماؤهم في نص الاتفاق، وأيضاً بحضور مُمَثِلين عن “تنظيم الدولة” من الشعيطات (أبو علي الشعيطي، جعفر الخليفة). وتركَّز الاجتماع حول المهجَّرين وإيجاد آلية تضمن عودتهم بدون مشاكل، وانتهى باتفاق نصَّ على تسعة بنود توزَّعت وفق ما يلي، بحسب ما ورد في الوثيقة([142]):
أطلق “داعش” على البنود السابقة اسم الاتفاق، مع أنها كانت شروطاً واضحة مفروضة من طرف واحد، ولم يكن للوجهاء أي خيار سوى قبولها لضمان عودة المهجَّرين وتخفيف مأساتهم المتفاقمة في أماكن النزوح، ولمواصلة السعي لتخفيف بعض الشروط، خصوصاً في الاجتماعات التي تلت هذا الاتفاق، والتي تركَّزت على تحديد آليات تفصيلية لتنفيذه.
ومع بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر العام 2014 والهدوء الحذر الذي عم المنطقة إثر التوصل إلى الاتفاق، انتشرت أخبار بين الشعيطات عن وصول “عفو” من أبو بكر البغدادي عن عشيرة الشعيطات للعودة إلى بلداتهم، الـ”عفو” الذي روّج له عناصر “داعش” في المنطقة قبيل عيد الأضحى أوائل شهر تشرين الأول/أكتوبر 2014، من دون أن ترد فيه أي وثيقة تؤكّده أو تحدد تاريخه بالضبط، إلا في اجتماع لأبو صهيب العراقي مع وجهاء الشعيطات عُقِد في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2014، حيث ذكر في حديثه في الاجتماع أن “أوامر البغدادي قضت بإرجاع الشعيطات المسلمين إلى ديارهم، ولكن تأخرنا عنكم حتى نسوّي الأمور مع الأخوة العسكريين ونضمن عدم تصادمكم معهم”([143]). وهذا الاجتماع الذي عُقِد في منزل أبو حمد البقعاني أحد وجهاء عشيرة البقعان، كان آخر الاجتماعات التي حددت الآليّات التنفيذيّة لعودة المهجَّرين، والتي لم تتبلور حتى أوائل شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2014.
وبالرغم من أن التنظيم صوَّر “العفو كمكرُمة من أمير المؤمنين” إلى مُهجَّري الشعيطات، فإنّ ذلك لم يؤثِّر في شروط الاتفاق التي فرضها للعودة، باستثناء الإفراج عن مجموعات من المعتقلين مع بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر العام 2014، خصوصاً كبار السن ممّن اعتقلوا على مدى أسابيع المجزرة. علماً أنّ أغلب تلك الإفراجات جاءت عن طريق رشوة عناصر “داعش” وتزكيات العناصر المحليّين أو تقديم قطع السلاح أو سيارات من ذوي المعتقلين، من دون أي توضيح عن مصير المفقودين سواء من باقي المعتقلين أو ممن قتلوا ولم يعثر على جثثهم. ثمّ جاءت موجات الإفراج الكبرى بعد عودة المهجَّرين، بحسب ما نصَّ عليه الاتفاق، واستمرّت إلى ما بعد العودة، إذ أفرج التنظيم بعد عودة غرانيج في 25 تشرين الثاني/نوفمير العام 2014 عن مجموعات كبيرة من المدنيّين، واستمرت سلسلة الإفراجات إلى أواسط العام 2015، وخرج فيها مئات المعتقلين. وتجدر الإشارة إلى أن البيانات التي جمعتها لاحقاً “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” تشير إلى مقتل ما لا يقل عن 558 مدنياً من الشعيطات حتى تاريخ الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2014.
أما بالنسبة إلى تسليم السلاح كشرط أساسي للعودة فقد فرض “داعش” بداية شروطاً قاسية، تمثَّلت بتسليم قطعة سلاح عن كل فرد يريد العودة إضافة إلى الاستتابة، إلا أن التفاوض استمر على تلك الشروط حتى تبلور بند جديد في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر العام 2014، إثر اجتماع مع وجهاء الشعيطات، تصدَّره أبو صهيب العراقي، في منزل أبو حمد البقعاني([144]). وكانت الشروط الأساسية والنهائية للعودة تتمحور حول: تسليم قطعة “كلاشنكوف” مع أربعة مخازن ذخيرة عن كل بيت/عائلة يريد العودة وليس عن كل فرد، إضافة إلى “توبة” كل صاحب منزل يريد العودة، تُعلَن بشكل رسميّ وهي أشبه بـ”تسوية” يحصل بعدها الشخص على ورقة رسمية من “داعش” تثبت أنه “تاب” وممهورة بختم مسؤول مكتب التوبات في ولاية “الخير”([145]).
في هذا الوقت بالذات، لم يكن نازحو الشعيطات الذين يريدون العودة يملكون السلاح، وذلك لعدة أسباب، منها أنّ نسبة كبيرة من المدنيين لم يكن لديهم سلاح أساساً قبل الأحداث، أما القسم الآخر فكان قد دفن سلاحه الفردي قبل الخروج والنزوح، وكان من الصعب إعادة إخراجه لأنهم ممنوعون من العودة إلى المنطقة، إضافة إلى التخوّف في حال تسليم سلاح خاص من فتح تحقيق وتهمة المشاركة في المعارك. وبناءً على هذا الواقع، بدأ المدنيون الراغبون بالعودة إلى منازلهم بشراء السلاح المطلوب، أما المال اللازم لشرائه، فكان يؤمَّن بالاستدانة أو بيع ممتلكات أو مساهمة من مهاجرين، خصوصاً في ظلّ الظروف المادية الصعبة التي كان يعانيها المهجَّرون في أماكن نزوحهم. وفي ما يتعلق بمصادر بيع السلاح كان “داعش” في هذا الوقت قد عيَّن تجاراً خاصين لبيع الأسلحة تحت رقابته وتنظيم عملية شرائها التي بدأت بكثافة([146]). أي أن “داعش” باع سلاحاً للشعيطات واستردّه منهم، فكانت عملية ابتزاز مالي غير مباشر.
كان مسؤول ملفّ تسليم السلاح والإشراف على “الاستتابات” هو أبو صهيب العراقيّ الذي تصدَّر الاجتماعات مع وجهاء الشعيطات لتنظيم عملية التسليم. وقد تمّ الاتفاق على أن ينتدب كل فخذ من البلدات الثلاث شخصاً عنه يجمع السلاح والأسماء ويشرف على تسليمها لعناصر “داعش”([147]). وبذلك، بدأ سكان كل بلدة بجمع السلاح وتسليمه، واستكمال باقي الأوراق التي فرضها “داعش”، استعداداً للعودة. وقد تمّت تلك العملية على مراحل زمنية بدأت بغرانيج مروراً بالكشكية وانتهت بأبو حمام، وتوزَّعت زمنياً كما يلي:
كانت غرانيج البلدة الأولى التي بدأت عملية جمع السلاح التي استمرت أياماً([148])، ثم سلَّمه الوجهاء المنتَدَبين عن كل فخذ على مرحلتين. في الأولى سُلِّم القسم الأكبر في منزل الوجيه أبو حمد البقعاني، وفي الثانية سُلِّم في مقر “الهيئة الشرعية” التابعة لـ”داعش” في هجين، وانتهت المرحلتان في حدود 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2014. وبلغ عدد قطع السلاح التي سُلِّمت حوالى 630 قطعة “كلاشينكوف” إضافة إلى أربعة مخازن ذخيرة عن كل قطعة سلاح([149]). وبعد كل مرحلة من المراحل السابقة، كان الأهالي ممن سلموا السلاح المطلوب يحصلون على أوراق التوبة والعودة، والتي يجب على كل شخص الاحتفاظ بها لأنها كانت بمثابة تأكيد على “تسوية” وضعه بما يُعفيه من المداهمات لاحقاً. وبعد 10 أيام من الانتهاء من جمع السلاح واستلام أوراق العودة، سمحَ “داعش” لسكان غرانيج بالعودة إلى منازلهم بتاريخ 25 تشرين الثاني/نوفمبر العام 2014([150]).
لحقت الكشكيّة بغرانيج بموجب نفس الاتفاق والشروط، فبدأت بعملية جمع السلاح التي استمرت أياماً، ليُسلَّم على مرحلتين أيضاً، الأولى: في غرانيج في منزل أحد وجهائها، حيث سُلِّم القسم الأكبر من السلاح بتاريخ 5 كانون الأول/دسمبر 2014. أما القسم الآخر، فسُلِّم في “مخفر” غرانيج الذي تحوَّل مقرّاً رئيساً لـ”داعش”، وانتهت العملية بتاريخ السابع من كانون الأول/دسمبر العام 2014([151]). وقد قُدِّرَت أعداد قطع السلاح التي سُلِمَت عن الكشكية بين 1000 و1200 قطعة “كلاشنكوف” إضافة إلى أربعة مخازن عن كل قطعة([152]). وفي أعقاب كل مرحلة حصل المهجَّرون ممن سلموا السلاح على أوراق “التوبة” التي تخوّلهم العودة إلى منازلهم، وبدأت العودة الفعلية بتاريخ 16 كانون الأول/دسمبر 2014([153]).
شكَّلت أبو حمام استثناءً بالنسبة إلى سائر بلدات الشعيطات. فهي كانت الجبهة الأولى في المعارك، كما أنّ التنظيم أنشأ فيها مقرّات ومعسكرات رئيسية بعد السيطرة عليها، ما استدعى استقدام عناصره المهاجرين عوائلهم الذين سكنوا أغلب بيوت البلدة، وهذا ما ساهم في تعقيد التفاوض حولها وبشأن عودة أهاليها. فقد عقَدَت قيادات التنظيم عدة اجتماعات مع وجهاء أبو حمام والشعيطات، قبل أن تبدأ عملية جمع وتسليم السلاح على غرار القرى السابقة، وذلك في أوائل شهر شباط/فبراير من العام 2015، وقد تمّت كذلك على مرحلتين: الأولى في منزل أحد وجهاء أبو حمام، والثانية في مخفر غرانيج، حيث سُلِّم القسم الأكبر من السلاح([154]). وانتهت المرحلتان في حدود 15 شباط/فبراير 2015، وقدِّرت أعداد قطع السلاح التي سُلِّمت عن أبو حمام بين 1300 و 1500، إضافة إلى أربعة مخازن عن كل قطعة.
وبعكس غرانيج والكشكية، لم تؤمِّن عملية تسليم السلاح عودة فورية لمهجري أبو حمام، إذ بقي “داعش” يمنع عودتهم حتى الأوّل من حزيران/يونيو 2015، بعد أن سمح بعودة جزئية لما يُقدَّر بنصف السكان من جهة البادية([155])، ومنع التنظيم عودتهم عبر الطرق الرئيسيّة. أما الدفعة الثانية من النازحين والتي تُشكِّل النصف الآخر من سكان البلدة، وبالرغم من تسليمهم السلاح مع الدفعة الأولى، فإنّ “داعش” لم يسمح بعودتهم إلى أبو حمام حتّى 17أيلول/سبتمبر العام 2015([156]). وبذلك، استغرقت عودة سكان أبو حمام أكثر من عام، من تاريخ إخلائهم البلدة في الشهر الثامن العام 2014، بقي السكان خلالها ضمن أماكن نزوحهم في قرى وبلدات خط البوكمال، كما مُنِعوا في تلك الفترة من العودة إلى بلدات الشعيطات الأخرى.
تجدر الإشارة إلى أن بيانات “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات”، تشير إلى بلوغ أعداد الضحايا في هذا التاريخ 648 ضحية موثَّقة. أي أن هناك ما لايقل عن 90 ضحية قضت ما بين تاريخ الاتفاق/”العفو” في الأولّ من تشرين الأوّل/أكتوبر العام 2014 والذي كان من المفترض أن يوقف حملة القتل، و17 أيلول/سبتمبر العام 2015 الذي شهد عودة القسم الثاني والأخير من مهجَّري أبو حمام.
شكَّل مشهد عودة المهجَّرين المتلاحقة بعد استكمال الشروط، أحد أكثر المشاهد “سورياليّة” بما حمله من تناقضات. ففيما كان سكان بلدات الشعيطات يتوقون للعودة إلى منازلهم كانت مشاعر الألم والحزن سيدة الموقف، خصوصاً وأن نسبة كبيرة منهم خرجت كعوائل كاملة لتعود اليوم بنقص أحد أفرادها أو أكثر، من دون معرفة مصير أغلبهم. في المقابل، لم يفوِّت التنظيم هذا الحدث ليصدِّرَ “سريديته” عن مجزرة الشعيطات التي ملأت أخبارها وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، إذ كان إعلام “داعش” مُستنفراً قبل أيام من عودة غرانيج ليصوّر “تنظيف الشوارع وإصلاحها تجهيزاً لاستقبال الأهالي”، ثم “إظهار فرحتهم بالعودة ودعائهم لأمير المؤمنين، أبو بكر البغدادي، بطول البقاء”. إلا أن ذلك المشهد “الكلاسيكي” لم يكن عبثياً بقدر ما كان غطاءً لستر مشاهد أشدّ فظاعةً سيواجهها السكان فور عودتهم، وستتكرّر بطرائق متطابقة على مستوى البلدات الثلاث التي عاد أهاليها في فترات زمنية مختلفة.
توجَّهَ السكان فور العودة إلى منازلهم، ليتفاجؤوا بكونها منهوبة بشكل كامل. وقد تجاوزت نسبة المنازل المسروقة في غرانيج 80 %، وكذلك في باقي البلدات. وتفاوتت طبيعة تلك السرقات من منزل إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى. إذ تعرَّضت بعض المنازل لسرقة الأغراض الثمينة فقط، في حين تعرَّضت النسبة الأكبر منها إلى سرقة كاملة شملت حتى الأبواب والشبابيك وأبسط أواني المطبخ([157]). في المقابل، كان هناك عشرات المنازل التي أحرقها أو هدمها عناصر “داعش”، خصوصاً تلك التي تعود لمطلوبين أو لذوي المقاتلين، وقد بثَّ التنظيم في فترات سابقة عدة تسجيلات مصوَّرة تظهر عناصره وهم يفجّرون المنازل([158]). كما ظهرت صور و”فيديوهات” عدة لسرقة المنازل وتحميل محتوياتها من الأثاث وغيره في سيارات نقل، اتجه بعضها إلى الرقة وبعضها إلى الحسكة/الشدادي، حيث بيعت في الأسواق. واتجهت أخرى إلى بعض قرى دير الزور، خصوصاً مع مشاركة عناصر محليين من بعض العشائر والقرى المجاورة في سرقة ممتلكات الشعيطات، والتي لم تقتصر على المنازل وإنما شملت المحلات التجارية وبعض وسائل النقل التي تركها أصحابها وحتى الدواب([159]). وقد تكرّر المشهد ذاته في عودة الكشكية وأبو حمام، بل وارتفعت نسبة سرقة المنازل وتدميرها خصوصاً في أبو حمام.
لم تكن الخسائر المادية إلا تمهيداً لما هو أقسى، إذ لم تمضِ أيام على عودة غرانيج حتى بدأ السكان يعثرون على الجثث في الأحياء، تلك التي لم يبذلوا جهداً كبيراً في اكتشفاها، إذ كان بعضها مرمياً على حوافّ السواقي أو مدفوناً عشوائيّاً وليس على عمق كبير، وقد غُطِّيت فقط بقشرة تراب في الطرقات الفرعية أو في محيط بعض المنازل، وكان أغلبها يعود لمدنيين ممن اعتقلوا في فترة المجزرة. وفي الأسبوعين الأوّلين على عودة غرانيج وجد السكان ما لا يقل عن 10 جثث، أمكن التعرّف على هوية بعضها بطرق مختلفة، في حين استحال التعرف على أخرى بسبب تحلّلها.
أخذت تتصاعد تلك الحالة وتزداد معها أعداد الجثث المكتشفة، حتى بات خبر العثور على جثة في أحد الأماكن خبراً متوقعاً بالنسبة إلى السكان، يستدعي التوجُّه إلى الموقع ومحاولة التعرُّف على هويتها، علّها تكون لأحد أقرباء الأهالي، ثم دفنها بطريقة لائقة، دون أي قدرة على استكمال مراسم الحزن وإقامة مجالس العزاء، خصوصاً وسط الإجراءات الأمنية التي فرضها “داعش” ما بعد العودة. إذ لم يكتفِ التنظيم بالشروط السابقة، وإنما حدد فور عودة السكان مجموعة أخرى من الشروط التي فرضت ما يُشبه حالة طوارئ امتدت لشهرين من تاريخ عودة كل بلدة، بعد أن أعلن عنها التنظيم بشكل رسمي عبر منشورات وملصقات في الشوارع، وشملت: منع التجمعات، أي لا عزاء أو فرح، وفرض حظر تجوال من الساعة الثامنة مساءً وحتى الخامسة فجراً، ومنع حيازة السلاح لأي سبب، والاعتراف بأن من قاتل التنظيم مرتد، والتهديد بالقتل لكل من ثبتت خيانته أو يحرّض على قتال التنظيم([160]).
كما منع “داعش” صلاة الجمعة في مساجد متفرقة من البلدة الواحدة وحصرها في مسجد واحد، ثم فرض دورات استتابة لمن اعترف بأنه “مرتدّ”، إضافة إلى دورات شرعية مُغلقة للمقاتلين السابقين وعناصر “الجيش الحر”، انتهت بمبايعة البعض لـ”داعش” تحت التهديد بالنفي أو الملاحقة. ناهيك عن التضييق الأمني، وفرض “الزكاة” على السكان في ظل حالة اقتصادية مزرية، وسط توقف الأعمال والاستنزاف المادي في مرحلة التهجير وشراء السلاح اللازم للعودة، وغياب الرجال بين قتلى ومعتقلين ومفقودين، وبقاء آلاف العوائل من دون معيل([161]). وستتطوّر تلك الإجراءات العقابية لاحقاً، لتشمل وقف التعليم والمدارس في المنطقة، بحجة عدم اعتماد مناهج “النظام” وانتظار إصدار “داعش” مناهجه الخاصة، إضافة إلى تجنيد القُصَّر ضمن ما يطلق عليه “أشبال الخلافة”، ومنع الإنترنت وحصره في مراكز خاصة بـ”داعش”، إضافة إلى استملاك بعض المنازل([162]).
وسط تلك الإجراءات الأمنيّة التي عكست حالة تخوّف وحذر في صفوف عناصر “داعش” استمر السكان في العثور على الجثث التي بلغت العشرات في الشهر الأول بعد عودة غرانيج، ثم تصاعدت الأرقام إلى المئات، خصوصاً بعد عودة الكشكية وأبو حمام اللتين لم يختلف المشهد فيهما عن مشهد غرانيج، ومع الوقت تجاوز الأمر العثور على الجثث الفردية إلى اكتشاف مقابر جماعية، تلك التي توزَّعت على مواقع مختلفة من البلدات الثلاث، سواء في أحيائها أو باديتها أو حتى أطراف القرى المحيطة بها. ومع تزايد العثور على الجثث سمح التنظيم للسكان بتاريخ 21 كانون الأول/دسمبر 2014 بالدخول إلى أحد المواقع تحت جسر أبو حمام حيث وجدوا حوالى 100 جثة مكدَّسة تعود لمدنيّين اعتقلوا في فترة المجزرة، وكان داعش قد حوّل الموقع “مكبّاً” ينقل إليه الجثث من مناطق مختلفة([163]).
ومع السماح بالدخول إلى هذا الموقع ازداد تدريجياً ضغط الأهالي الذين لم يجدوا أبناءهم في تلك المقابر، ما دفع “داعش، في السادس من أيار/مايو 2015 إلى نشر قائمة بأسماء حوالى 400 شخص اعترف بقتلهم من أبناء الشعيطات([164])، من دون تسليم جثامينهم أو إعطاء أي معلومة عن أماكن دفنهم أو عن سائر المختفين، خصوصاً وأنّ أعداد المفقودين تجاوزت في تلك الفترة ما أعلن عنه التنظيم، تحديداً من الذين لم يخرجوا في موجات الإفراج عن المعتقلين التي امتدت حتى منتصف العام 2015.
استمر اكتشاف مواقع انتشار الجثث والمقابر الجماعية على فترات زمنية متباعدة ومتقاربة، فما إن يعلن عن اكتشاف موقع حتى يتوجَّه إليه الأهالي من ذوي المفقودين لمعاينته ومحاولة التعرُّف على من فيه. وقد استمرّت تلك الحالة حتّى فترة متأخّرة من سيطرة التنظيم، وإلى ما بعد سيطرته على محافظة دير الزور التي انتهت في العام 2019. فقد اكتُشف آخر موقع لمقبرة جماعية في العام 2020، وكانت تضمّ رفات 26 من عمّال النفط المدنيّين الذين أعدمهم “داعش” فور انتفاضة الشعيطات. ولا يزال الكثير من المواقع غير مكتشف حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة، كما لا تزال هناك أعداد كبيرة من المفقودين الذين لم يُعثَر عليهم.
وفي ما يلي، جدول يُمثّل مسحاً لأبرز المواقع التي وجِدَت فيها الجثامين والمقابر الجماعية، والتي عُثِر عليها من تاريخ العودة الأولى لسكان غرانيج في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2014 وحتى اكتشاف آخر موقع في العام 2020. وتعود جميعها لمدنيين من الشعيطات، يُرجَّح، بناء على البيانات الموجودة، أنّ عناصر داعش أعدموهم بطرق مختلفة في الفترة الزمنية الواقعة ما بين الثالث من آب/أغسطس 2014 وأوائل أيلول/سبتمبر 2014.
وتجدر الإشارة، إلى أن هذا الجدول لا يُعد مسحاً نهائياً لتلك المواقع، بقدر ما يُمثِّل توثيقاً لأبرزها، وقد اعتمد بناؤه على العديد من مصادر البيانات، أهمّها المقابلات الميدانية مع العشرات من أهالي الضحايا الذين وجدوا جثامين ذويهم في تلك المواقع، إضافة إلى مقابلات أخرى مع الناشطين والإعلاميين الذي وثَّقوا بعضها، وأيضاً بالتعاون مع “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” التي ساهمت في نقل الجثامين من بعض المواقع وإعادة دفنها. تضاف إلى ذلك معاينة عشرات الصور والتسجيلات المصوَّرة التي وثَّقَت بعض الجرائم ومواقعها عند ارتكاب المجزرة، خصوصاً التسجيلات والصور التي بثَّها “داعش” لعمليات القتل في تلك الفترة أو تلك المسرَّبة على يد مدنيين، ومطابقتها مع مواقع المقابر الجماعية في محاولة للتحقق من تاريخ ارتكاب الجريمة وطرق القتل المُعتَمدة.
وقد توزَّعت بيانات الجدول على ستّ خانات توضّح اسم وجغرافية الموقع، وتاريخ اكتشافه وعدد الضحايا الذين وجدوا فيه، طرق القتل المعتمدة، والتاريخ المقدَّر لارتكاب الجريمة، نوع التوثيق الخاص بالموقع (صور، مقاطع مصوَّرة، شهادات) إضافة إلى ملاحظات حول التعرُّف على الجثامين التي وجدت في الموقع ونقلها إلى أماكن أخرى.
يظهَر من خلال الجدول السابق الذي يوضِّح أبرز مواقع انتشار الجثث والمقابر الجماعية عند العثور عليها أن أغلب تلك المواقع كانت ضمن بلدات الشعيطات التي تحوَّلت في فترة التهجير أرضَ اعتقال وتصفية، أما النسبة الأقل فقد كانت في أطراف القرى المحيطة أو بعض مناطق سيطرة التنظيم خارج هذه القرى. ويُلاحظ أنّ الكثير من تلك المواقع، خصوصاً في بلدات الشعيطات، كانت قريبة من أماكن الاحتجاز التي اتخذها “داعش”، كمقبرة حي حلاوة وغيرها، الأمر الذي يدلّ على أنّ عمليات التصفية كانت تنفَّذ بالقرب منها، ما قد يشير إلى احتمال وجود مواقع أخرى في محيط مراكز الاحتجاز الرئيسية التي استعملها التنظيم، أو الحواجز الأساسية التي اعتقلت أعداداً كبيرة من الشعيطات في تلك الفترة.
ومن خلال الوثائق الموجودة عن تلك المواقع، يُلاحَظ أنّ بعض الجرائم التي وثّقها عناصر “داعش” ساعدت لاحقاً إلى حد ما على العثور على بعض المواقع والتعرُّف على هويات الضحايا، وذلك بمطابقة الصور والفيديوهات مع ألوان ملابسهم بعد العثور عليهم. ومن المؤكد أن هناك وثائق أكثر عن المجزرة، الأمر الذي يحتاج إلى توسيع نطاق البحث في هذا الإطار. أما بالنسبة إلى طريقة العثور على الجثث ونقلها، فنجد أن جميع المواقع عثر عليها الأهالي، وبجهود فرديّة ومن دون أي مساعدة جنائية أو حقوقية، سواء من المنظمات الدولية أو السُلطات القائمة، خصوصاً بعد انتهاء سيطرة “داعش” على المنطقة وانتقالها إلى قوات “سوريا الديمقراطية” (قسد) مدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة.
في المقابل، تشير أعداد الضحايا الذين عُثر عليهم في تلك المواقع والتي بلغت حوالى 300، والتي لا يمكن اعتبار الجدول السابق مسحاً نهائياً لها، إلى كمية الذين لم يمكن التعرف على هوياتهم من بين الضحايا، إضافة إلى الذين لا يزالون في عداد المفقودين، سواء بالنسبة إلى القائمة التي أصدرها التنظيم وأكَّد فيها قتله حوالى 400 شخص، أو بالنسبة إلى الأعداد الحقيقية التي تجاوزت الرقم السابق في مرحلة تنفيذ المجزرة بما لا يقل عن 158 ضحية. وبقدر ما يقدم هذا الجدول تصوّراً وتوثيقاً لأبرز المقابر الجماعية المكتشفة حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة، بقدر ما يحتاج استكماله وضبطه والتحقق من بعض المواقع، إلى عملٍ أوسع من المسح الاجتماعي-التوثيقي، إلى جهود أنثروبولوجية جنائية وأخرى حقوقية دولية للتعامل مع تلك المواقع أو ما سيكتشف منها لاحقاً وحمايتها، إضافة إلى توسيع النطاق الجغرافي للبحث في باقي مناطق دير الزور وصولاً إلى العراق، خصوصاً مع تنفيذ “داعش” عدة إعدامات فردية بحق أبناء الشعيطات في مناطق مختلفة من المحافظة في تلك الفترة، وكذلك اعتقاله أعداداً كبيرة منهم في العراق.
مثَّل التوثيق المنهجي للأرقام والبيانات الدقيقة حول الضحايا والمفقودين، إحدى أكثر المسائل إشكاليَّة في إطار السردية الخاصة بمجزرة الشعيطات. وذلك لعدة أسباب، تتعلق أوّلاً بالظرف الموضوعي للمجزرة والذي قتل في خلاله أو لوحِق أو هُجِّر أغلب الإعلاميين والناشطين في المنطقة، إضافة إلى كون “تنظيم الدولة” قد غيّبها وعتّم عليها، وهو ما أدى إلى اعتماد المراصد والمنظمات الحقوقية (محلية، دولية) على التقديرات التقريبيّة لأعداد الضحايا والمفقودين، والتي بُنيت بطبيعة الحال على إفادات شهود العيان والصور والمقاطع المصوَّرة والمصادر المحلية، فصدَّرَت خلال الأسابيع الأولى من المجزرة أرقاماً حول الضحايا تتراوح ما بين 700 و900، ثم بلغت تلك الأرقام حدود الـ 1200 في بعض وكالات الأنباء ووسائل الإعلام.
وبالرغم من دحر “داعش” من بلدات الشعيطات لاحقاً، ودخول بعض المنظمات الحقوقية المحلية والدولية إلى المنطقة إلا أن أغلب الدراسات والتقارير والعمل التوثيقي اقتصر على جمع الشهادات أو دراسة عينات من الضحايا أو أعمال مسح لم تكتمل. وفي العام 2019، تأسست “رابطة شهداء ومفقودي الشعيطات” ومقرُّها أبو حمام، على يد مجموعة من الناشطين وذوي الضحايا، قبل أن يتحوّل اسمها لاحقاً إلى “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات”. أجرت هذه الرابطة في العام 2020 مسحاً يوثِّق ضحايا المجزرة، عبر التواصل مع عائلات الضحايا المتواجدين في بلدات الشعيطات وأخذ بيانات عدة تتعلّق بضحاياهم. وإلى اليوم، يعتبر هذا المسح هو الأشمل من ناحية توثيق أكبر عدد من الضحايا بالأسماء والبيانات الديموغرافية، بالرغم ممّا اعتراه من ثغرات ونقص في بعض البيانات، كون الرابطة حديثة العهد بهذه التجربة وتنقصها الخبرة والدعم.
وكما ركّزت الرابطة على توثيق ضحايا المجزرة، فقد شمل المسح الذي أجرته أيضاً توثيق أسماء ضحايا من الشعيطات قضوا على مدى فترة زمنيّة أوسع من زمن المجزرة، وإن كان مُتعلِّقاً بسيطرة “داعش” وانتهاكاتها في المنطقة عموماً. فقد شمل المسح حوالى 814 اسماً قضوا بين العامين 2014 و2021، أي منذ صعود “تنظيم الدولة” في دير الزور إلى ما بعد خسارته مواقعه في المحافظة وتحوّل نشاطه إلى عمل خلايا. كما لم يميّز هذا المسح بين مقاتلين ومدنيين ولم يُركِّز على المفقودين. كما اعترفت الرابطة نفسها بنقصه وعدم شموليته لكل ضحايا المجزرة وإنما غالبيتهم، خصوصاً وأن بعض عائلات الضحايا لم تكن موجودة في فترة إجراء المسح، ناهيك عن مغادرة البعض الآخر المنطقة كلّياً بعد خسارة أبنائهم وذويهم.
وعليه، اطّلع فريق البحث بالتعاون مع “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” على تلك البيانات الموثّقة للضحايا وحلّل المتوفِّر منها، من دون إعادة إجراء المسح الذي يتطلب جهوداً حقوقية كبيرة لضمان أعلى مستوى من الدقة في البيانات والأرقام. وبناء على ما تيسَّر له، وكخطوة أولى أعاد فريق البحث ضبط تلك البيانات، فتأكّد مثلاً من عدم تكرار أي أسماء في المسح، ومن وجود بيانات كافية للتحليل، وهو ما نُفِّذ على مستويين:
المستوى الأول: تحليل بيانات الضحايا وفقاً للخطّ الزمني للحدث، إذ قامت الرابطة أثناء إجراء المسح بتوثيق تاريخ قتل كلّ ضحيّة أو اختفائها وفقاً لشهادات ذويهم. وبناء عليه، وزّع فريق البحث تلك البيانات وفقاً لتسلسل الأحداث زمنيّاً الذي سبق أن ضُبِط وتوضَّح في المحاور السابقة التي وُثِّقت فيها المجزرة وحُدّد مسارها، وذلك في محاولة لفرز الضحايا بحسب الفترات الزمنية، وبالتالي حصر بيانات الضحايا الموثَّقة في فترة زمنية محدّدة، هي فترة حدوث المجزرة.
المستوى الثاني: تحليل البيانات الديموغرافية لضحايا المجزرة، بعد توزيع إجمالي أعداد الضحايا وفقاً لكل فترة زمنية، وكان التركيز على الكتلة التي قضت في سياق الخط الزمني للمجزرة، بعد سَحْب ما هو متوفِّر من بيانات ديموغرافية حولها، ثم تحليلها.
بدأ التوثيق الفعلي الذي أجرته “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” مع بداية الشهر الأول من العام 2014، أي مع صعود “تنظيم الدولة” وبداية الصدامات الأولى مع فصائل المعارضة في محافظة دير الزور ومن ضمنها مع فصائل الشعيطات، مروراً بحدث المجزرة الكبرى، وصولاً إلى خروج “داعش” من المنطقة، وامتدّ حتى توثيق آخر حالة بتاريخ 2021/8/15. ومن تلك الفترة الزمنية أحصت الرابطة ما لا يقلّ عن 814 ضحية من عشيرة الشعيطات، قضوا في سياقات مختلفة على يد “داعش”. ومع تتبع تواريخ القتل والاختفاء الموثَّقة لكل اسم، نجد بأن الرقم الإجماليّ يتوزَّع زمنياً وفقاً لما يلي:
وثّقت “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” ما لا يقلّ عن 44 اسماً، قضوا من تاريخ الصدامات الأولى مع “داعش” في محافظة دير الزور في الشهر الأول من العام 2014 إلى تاريخ اندلاع شرارة المجزرة، أي حادثة البلدية في الكشكية بتاريخ 30 تموز/يوليو العام 2014. وبحسب الفترة الزمنية، يُرجَّح أنّ المدنيّين يشكّلون النسبة الأقل منهم، والذين قضوا بطرق مختلفة في تلك الفترة كالقصف أو غيره. أما النسبة الأكبر فيرجَّح أنها لمقاتلين من الشعيطات قضوا في المعارك المتواصلة التي دارت مع تنظيم “داعش” بين هذين التاريخين، وهي الفترة التي أخضع فيها محافظة دير الزور بعد معارك طاحنة مع فصائلها، وبخاصة في الريف الشرقي. ولا بد التنويه هنا بأنّ هذا الرقم هو ما تيسَّر للرابطة إحصاؤه، لكنه قد يكون أكبر من ذلك، سواء على مستوى المدنيين أو المقاتلين.
يبدأ الخط الزمني للمجزرة مع بداية الحدث الفعلية بتاريخ تموز/يوليو 2014 وهو تاريخ شرارة الحادثة، وأيضاً تاريخ صدور أمر تنفيذ “الفتوى” بحق العشيرة، وانطلاق المعركة، التي بدأ معها فعلياً استهداف المدنيين بالاعتقال والقتل العشوائي. وقد استمرّ بوتيرة متفاوتة وصولاً إلى تاريخ 1 تشرين الأول/أكتوبر 2014، أي تاريخ صدرو ما سمي بـ”العفو” عن عشيرة الشعيطات الذي روَّج له التنظيم، والذي سبقه بأيام اتفاق شبه نهائي بين قادة “داعش” ووجهاء الشعيطات “يضمن” وقف الحملة ويضع شروطاً لعودة المهجَّرين”. وما بين هذين التاريخَين أحصت “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” ما لا يقلّ عن 558 ضحية قضوا في هذه الفترة الزمنية التي شهدت ذروة القتل.
إذا اعتبرنا المجزرة كحدث انطلق مع اندلاع شرارة المعركة وأدى إلى التهجير وانتهى بعودة المهجَّريين، فإن العدد الموثَّق بحسب بيانات “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” هو 648 ضحية، قضوا بين هذين التاريخين، أي أن هناك ما لا يقلّ عن 90 ضحية قضت ما بين تاريخ إقرار الاتفاق/”العفو” في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2014، والذي كان من المفترض أن يوقف حملة القتل، وتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2015 الذي شهد عودة الدفعة الثانية والأخيرة من مهجَّري أبو حمام. ومع غياب البيانات الدقيقة، وبناء على سياق الفترة الزمنية وتوقف المعارك في تلك الفترة يُرجَّح أنّ النسبة العظمى من هؤلاء القتلى هم من المدنيين الذين قضوا على يد التنظيم بأدوات وتهم مختلفة.
وثَّقَت الرابطة بين هذين التاريخين ما لا يقل عن 86 ضحية، النسبة الكُبرى منهم من المدنيين الذين قضوا مع استمرار تضييق “داعش” واعتقالاته وتنفيذه عدة إعدامات ميدانيّة بتهم مختلفة شهدتها البلدات بعد العودة. وفي الموازاة قضى الآخرون في معارك طرد “داعش” من المنطقة والتي قادتها “قسد” مدعومة بـ”التحالف الدولي”. إذ لم يتوقف استنزاف الشعيطات في تلك الفترة، خصوصاً مع تسلل عناصر “داعش” في تلك المعارك وخطفهم وقتلهم بعض المدنيين وإعادة تهجير آخرين، إضافة إلى سقوط مدنيّين نتيجة غارات طيران “التحالف الدولي” على مقرات التنظيم في المنطقة، ما أدّى إلى سقوط ضحايا في محيط القصف أو من المعتقلين في سجون “داعش”، ناهيك عن الألغام التي زرعها التنظيم في المنطقة أثناء معاركه مع “قسد” والتي أودت بحياة بعض المدنيين.
بالرغم من خروج التنظيم من المنطقة وسيطرة “قسد” عليها مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ خسائر الشعيطات لم تتوقف. فبعد انتهاء الوجود العسكري لـ”داعش” في المنطقة استأنفت خلاياه الأمنيّة عملياتها في بلدات الشعيطات وغيرها من مناطق دير الزور، ما أدّى إلى استهداف شخصيات بعينها بعمليات الاغتيال، أو استهداف قوات “قسد” بالمفخَّخات والعمليات الأمنية، الأمر الذي تسبب بسقوط ضحايا مدنيّين في محيط العمليات، وقد وثَّقَت “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” ما لا يقل عن 36 ضحية قضوا بين هذين التاريخين، أغلبهم من المدنيّين.
توزُّع ضحايا المجزرة: بيانات ديموغرافية
بناءً على توزُّع ضحايا عشيرة الشعيطات في فترات زمنية مختلفة ومتعلقة بتواجد “تنظيم الدولة”، سحب فريق البحث عينة ضحايا المجزرة وحلّلها وفقاً لعدة مُتغيرات. وقد تم التركيز على هذه الفترة الزمنية باعتبارها شهدت بوادر إبادة جماعية توافرت فيها النيّة الكاملة لارتكاب الجريمة، ثم صدر الأمر بارتكابها، قبل أن يتوقف نسبياً بقرار من الجهة المُنفِّذة. كما أن التركيز على هذه الكتلة من الضحايا لا يعني أبداً إهمال سواهم ممن قضوا في فترات زمنية مختلفة، وإنما هو ضبط لأبعاد هذا التحليل وفقاً لحدود هذه الدراسة وموضوعها المتمثل بمجزرة الشعيطات. وعليه، قام فريق البحث بتحليل بيانات ضحايا الفترة الزمنية الواقعة بين 30 تموز/يوليو 2014 والأوّل من تشرين الأول/أكتوبر 2014، والبالغ عددهم بحسب مسح “رابطة عائلات ضحايا الشعيطات” 558 ضحيّة. ونوضح فيما يلي توزُّع الضحايا بحسب الجنس، التوزُّع بحسب الفئة العمرية، بحسب خانة الولادة، بحسب المهنة، بحسب الوضع الاجتماعي، إضافة إلى أعداد الأرامل والأيتام.
يتضح من الشكل رقم 2، بأن نسبة الذكور من ضحايا المجزرة بلغت 98 % من عدد الضحايا العام في خلال الخطّ الزمني الأساسي للمجزرة، بينما اقتصرت نسبة الإناث على اثنين بالمئة من اللواتي قضين بطرق غير مباشرة كالقصف وغيره. وتبدو النسبة طبيعة قياساً بتوجهات “داعش” في تلك الفترة إلى استهداف الذكور بشكل أساسي عبر الاعتقال وعمليات القتل المباشر، كما تنسجم مع حكم “الفتوى” التي أصدرها بحق الشعيطات في تلك الفترة، والتي تُركِّز على قتل الذكور من دون النساء، فإن عدم تعرُّض عناصر “داعش” للنساء في تلك الفترة، لا يتعلق فقط بنص “الفتوى” بقدر ما يتعلق بطبيعة المنطقة العشائرية، والتي يُدرك التنظيم أن استهداف النساء فيها سيؤدي إلى تداعيات أكبر وتصعيد الحدث بشكل مختلف.
من خلال الشكل رقم 3، يُلاحَظ أنّ أعداد الضحايا في فترة المجزرة توزَّعت على عدة فئات عمرية، وقد شكَّلت الفئة العمرية التي ما بين 18 و 35 سنة النسبة الأعلى من عدد الضحايا بواقع 65 %، بينما احتلت المرتبة الثانية شريحة القُصَّر (أقل من 18 عاماً) والتي شكَّلت نسبة 15 % من العدد الإجمالي للضحايا. وفي المرتبة الثالثة جاءت الشريحة العمرية (من 36 إلى 50 سنة) بنسبة 14%، في حين جاءت شريحة الذين تفوق أعمارهم 50 سنة في المرتبة الأخيرة بواقع 6% من إجمالي الضحايا. ولعلَّ طبيعة تلك الشرائح العمرية تشير، بشكل أو بآخر، إلى آلية القتل العشوائي التي اتبعها “داعش” على مدى الخط الزمني للمجزرة، والتي شملت قُصَّراً وكباراً في السن وتركَّزت بشكل أكبر على الرجال والشباب.
في الشكل الرقم (4) والذي يوضِّح توزُّع الضحايا بحسب مكان الولادة المُسجَّل على الهوية الشخصية، والذي وثَّقته الرابطة في بياناتها، يظهَر أنّ العدد الأكبر من الضحايا يتحدّرون من بلدة أبو حمام بنسبة 42% من أعداد الضحايا الإجمالي في خلال هذه الفترة الزمنية. وجاءت الكشكيّة في المرتبة الثانية بنسبة 40% من إجمالي أعداد الضحايا، وجاءت غرانيج في المرتبة الثالثة بنسبة 18%. ويُلحَظ من الأرقام ارتفاع النسبة في أبو حمام والكشكيّة، ويبدو ذلك طبيعياً نتيجة تركيز “داعش” على أبو حمام التي شكّلت خطّ الجبهة الأول في المعركة، وهي كانت آخر المناطق التي عاد سكانها المهجّرون. وتتقارب نسبة ضحايا أبو حمام مع الكشكية التي شهدت أيضاً اندلاع شرارة الحادثة، بينما تنخفض النسبة في غرانيج.
ووفقاً لآلية القتل العشوائي التي اتبعها “داعش” في هذه الفترة الزمنية، ليس هناك اعتقاد بأن الفروقات بين النِسب تعكس أي اعتبارات اتّبعها عناصر التنظيم في التمييز بين الضحايا عند ارتكابهم الجريمة. إذ تعاملوا مع سكان المنطقة كونهم من الشعيطات بغض النظر عن خانة الولادة، والتي استند إليها عناصر “داعش” لتمييز الشعيطات على الحواجز وفي المداهمات، حيث جرت الاعتقالات وأعمال القتل على الهوية. كان يكفي أن تحمل الهوية أحد الأسماء التالية: أبو حمام أو الكشكية أو غرانيج لكي يُعتَقَل الشخص أو يُصفَّى. وإن عبّرت هذه الأرقام عن توزُّع نسب الضحايا وفقاً لكل بلدة، إلا أنها ليست بالضرورة دقيقة لناحية مكان الإقامة، فعلى سبيل المثال هناك الكثير من غرانيج وفقاً لخانة الميلادس، لكنهم يسكنون أبو حمام أو الكشكية، والعكس صحيح. وذلك بحكم تقارب البلدات وتداخلها الجغرافي وصلات القرابة.
يُلاحَظ في الشكل الرقم (5)، والذي يوضِّح توزُّع الضحايا بحسب المهنة التي كانوا يمارسونها، بأن النسبة الأعلى من الضحايا كانوا من العمال بواقع 76% من إجمالي الضحايا، والذين يتوزَّعون بدورهم على مهن مختلفة. بينما احتل المزارعون النسبة الثانية بواقع 13%، فيما احتلّ الطلاب المرتبة الثالثة بواقع 7%، ومنهم طلاب في المرحلتين الثانوية والجامعية، وقد شكّلت مهن أخرى متفرّقة 3%، مقابل 1 % من الخريجين الجامعيين، من معلمين ومهندسين.
وبالرغم من عمومية تلك الأرقام العائدة إلى النقص في البيانات، إلا أنها تنسجم مع طبيعة الأنماط الاقتصادية الطاغية في المنطقة، وكذلك مع فئات الضحايا العمرية. فقد تراجعت الزراعة بعد العام 2000 في بلدات الشعيطات، ليتقدم عليها نمط العمالة سواء المحلي الذي يشمل مهناً مختلفة، أو الاغتراب الذي يُمثِّل النسبة الأكبر كنمط اقتصادي. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من الضحايا العمال، كانوا من الذين يعملون في الخليج (الكويت، قطر، السعودية)، وهذا ما تبيّن في المقابلات الميدانية مع ذوي الضحايا، وقد ساهم نمط هذه العمالة في ارتفاع نسبة الضحايا منها. إذ إن أغلب من يقيمون من الشعيطات في الخليج، يعملون هناك طوال العام ويعودون إلى سوريا ومناطقهم في شهر رمضان والعيد ليقضوا إجازاتهم مع أسرهم، وصادف أن كانت ذروة القتل في شهر إجازاتهم، ما أدى إلى قتل عدد كبير من الأبرياء الذين كانوا يزورون عوائلهم في تلك الفترة. ومن الصعب وفقاً للبيانات المتاحة تحديد هذه النسبة، نتيجة عدم تخصيص خانة لمكان العمل في المسح الذي أجرته الرابطة، لكن من المؤكد أنّها ليست نسبة قليلة.
من خلال الشكل الرقم (6)، يظهر أن نسبة المتزوجين من إجمالي عدد الضحايا بلغت 68%، بينما شكّلت نسبة العازبين 32%. وتنسجم تلك النسب إلى حد كبير مع توزُّع فئات الضحايا العمريّة. وقد أدى ارتفاع نسبة المتزوجين من الضحايا إلى ارتفاع أعداد الأرامل والأيتام بشكل كبير في المنطقة، كما هو موضَّح في الشكل التالي.
خلَّفت كتلة المتزوجين، التي تشكل 68% من إجمالي عدد للضحايا والبالغ 558 ضحية، ما لا يقل عن 1563 يتيماً، وما لا يقل عن 385 أرملة. وتجدر الإشارة إلى أنّ عدد الأرامل في هذه الكتلة من الضحايا يمثل الحد الأدنى، خصوصاً وأن المسح الذي أجرتهُ الرابطة ركَّز على تسجيل الوضع الاجتماعي (متزوج أم لا) لكنه لم يُسجّل عدد الزوجات في كلّ خانات المتزوجين، خصوصاً مع انتشار تعدد الزوجات وفقاً للأنماط الثقافية في المنطقة، وبالتالي فالرقم قابل للزيادة.
وإن كانت تلك الأرقام تبيّن حجم نكبة عوائل الشعيطات، إلا أنها ليست إلا جزءاً محصوراً بضحايا هذه الفترة الزمنية (المجزرة). لكن إلقاء نظرة على أعداد الأرامل والأيتام بالنسبة إلى مختلف الفترات الزمنية الموثَّقة، أي ما بين تاريخ بداية المسح في 1 كانون الثاني/يناير 2014، وتاريخ توثيق آخر ضحية في 15 آب/أغسطس 2021، نجد أنّ عدد الأيتام بلغ حوالى 2275، وعدد الأرامل 541 على الأقلّ، وهو الحد الأدنى كما ذُكر أعلاه.
بالرغم من مرور عشرة أعوام على حدث المجزرة، لا تزال آثارها ماثلة في الأذهان على مستويات مختلفة، سواء لجهة ذوي الضحايا والمفقودين وملف المقابر الجماعية، أم لجهة أعداد الأرامل والأيتام، وذلك في ظروف أمنية مُقلقة لا تزال تشهدها المنطقة، وفي هذا الإطار يمكن اقتراح مجموعة توصيات عامة موزَّعة على عدة مستويات:
يُمثّل ملف المفقودين أحد أبرز الملفات المفتوحة في إطار مجزرة الشعيطات، خصوصاً مع عدم وجود مسح منهجي دقيق لأعدادهم، والاستناد إلى تقديرات تتحدّث عن 250 مفقوداً إلى اليوم. لذا لا بد من دعم جهود حقيقية تُبذل في سبيل قضية المفقودين وإحصائهم، خصوصاً مع تشكيل الجمعية العامة للأمم المتحدة “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية”، التي يمكن حثَّها على الاضطلاع بمسؤولياتها في إطلاق تحقيق جديّ حول الكشف عن مصير مفقودي الشعيطات وتحديد مواقع تواجدهم، وتقديم كل أنواع الدعم المتاح لذويهم، والتواصل في هذا الإطار مع روابط الضحايا على الأرض، بعيداً عن مكاتب المفقودين التي فتحتها سُلطات الأمر الواقع، والتي لا تملك البيانات ولا إمكانية الوصول الكافي إلى ذوي الضحايا والمفقودين.
يعاني ذوو الضحايا منذ عشر سنوات من شعور متنامٍ بالإهمال وعدم الإنصاف، كما يعانون في الموازاة من ظروف اقتصادية وإنسانية وأمنية مُعقَّدة. وفي هذا الإطار لا بدّ من توجيه المزيد من الجهود لدعم ذوي الضحايا، سواء على مستوى دفع السُلطات القائمة إلى تقديم كلّ التسهيلات لكل الجهات والمنظمات الحقوقية والإنسانية لتتمكّن من الوصول إلى المنطقة واستكمال العمل على توثيق المجزرة والتحقيق في ملابساتها وإغاثة ذوي الضحايا، أو على مستوى ربط ذوي الضحايا بالمنظمات العاملة في مسار المحاسبة والعمل على بناء قضية قانونية لمجزرة الشعيطات، إضافة إلى توفير مختلف أنواع الدعم المتاح، سواء على المستوى النفسي أو القانوني أو المادي.
بالرغم من اكتشاف العديد من المقابر الجماعية، لا تزال هناك حتى اليوم مواقع غير مكتشفة. وفي هذا الإطار، يمكن توجيه جهود المنظمات الدولية للتحقيق في شأن سائر المقابر الجماعية غير المكتشفة، وتوسيع البحث وجمع الأدلة حول ما اكتُشف منها. إضافة إلى دفع السُلطات القائمة إلى تقديم كلّ التسهيلات للمنظمات المُستقلة والمؤهَّلة لتُمكِّنها من الدخول إلى المنطقة وأخذ العينات ومتابعة العمل عليها بشكل جديّ، خصوصاً مع أخذ موافقات مُسبَقة من بعض ذوي الضحايا وإهمالها. وريثما يتم ذلك، لا بدّ من تأمين الحماية لبعض المواقع ومنع التلاعب بالأدلّة عن قصد أو غير قصد، وكذلك يجب نشر الوعي بين الأهالي عن أهمية حماية تلك المواقع.
إن أي نشاط توثيقيّ أو حقوقيّ أو إنسانيّ لاستكمال الجهود المبذولة في موضوع مجزرة الشعيطات وذوي الضحايا والمفقودين، يتطلب تبنّي مقاربات تقوم على مركزية قضية الضحايا وتراعي تطلعات ذويهم واحتياجاتهم. وفي هذا السياق، لا بدّ من تقديم المزيد من الدعم لروابط الضحايا المحليّة وتطويرها، خصوصاً وأنها قائمة على جهود التوثيق وجمع البيانات، إضافة إلى امتلاكها إمكانية الوصول الكافي إلى أغلب ذوي الضحايا والمفقودين. وتركيز هذا الدعم على المستويات التقنية والتدريب المُتقدِّم للتعامل مع هذا النوع من الملفات، إضافة إلى الدعم القانوني.
خلَّفت المجزرة ما يقارب 1563 يتيماً وأكثر من 385 أرملة، أما الأرقام المتوفّرة حتى خروج “داعش” من المنطقة فتبلغ 2275 يتيماً وأكثر من 541 أرملة. وبناء على هذا الواقع لا بدّ من توجيه جهود منظمات المجتمع المدنيّ السوري والدولي العاملة في المجالات الإنسانية والتعليمية وغيرها إلى دعم النساء من ذوي الضحايا، خصوصاً أنّ وضع أغلبهن يصنّف تحت خط الفقر وليس لهنّ من معيل. كما يجب تركيز الجهود على تأمين التعليم والرعاية الصحّية لهذا الجيل من الأيتام. وفي هذا الاطار، يمكن استثمار تضامن المجتمع العشائري فيما بينه، وكتلة المهاجرين المقيمة في الخليج لإطلاق مبادرات أهلية مُنظَّمة لدعم الأرامل والأيتام من أسر الضحايا.
إذا كانت هذه الدراسة تؤمّن أرضية معلوماتية حول مجزرة الشعيطات وما يتعلق بها من سياقات وبيانات، إلا أنّ استكمالها والبناء عليها يعد أمراً بالغ الأهمية لتأمين إحاطة أوسع وفهم أعمق حول سائر الجوانب والبيانات المتعلقة بالمجزرة. وفي هذا السياق، لا بد من تشجيع الباحثين المهتمين بدراسات الإبادة والمجازر الجماعية في سوريا، ودعم الأبحاث المتعلقة بالمجزرة والتوسُّع في بعض التفاصيل، سواء المتعلقة بتحليل أرقام الضحايا في فترات زمنية مختلفة، أو المرتبطة بالمفقودين ومسح أعدادهم أو غيرها، وتقديم الدعم الكافي في هذا الإطار من قبل المنظمات الحقوقية والجهات البحثية لتوسيع هذا النوع من الدراسات، سواء على مستوى دير الزور أو سوريا بشكل عام، وما يتعلق منها بمجازر “تنظيم الدولة” أو بمجازر غيره من الأطراف العسكريّة.