كان عليّ الاستعداد لاحتمال أن يستمر هذا الأسر لفترة طويلة، أو حتى أن ينتهي بمأساة

 

تغطية “الربيع العربي”

ليس من السهل كتابة هذا النوع من الشهادات كونها تحمل بين سطورها ذكريات مؤلمة وتجربة قاسية. ومع ذلك، من الضروري توثيقها لكي يدرك العالم حقيقة ما جرى، ولذلك أجبرت نفسي على الكتابة.

بدأت مسيرتي الصحافيّة في العام 1999. وبعد سنوات قليلة، وتحديداً في العام 2002، غادرت فرنسا للعمل كمراسل مستقلّ في مناطق النزاع. كانت البداية من العراق، إذ انتقلت إلى بغداد قبل أشهر من الغزو الأمريكي، وأَقَمْتُ هناك مدة عامين، متابعاً التطورات عن قرب على مدى خمس سنوات.

وكما كان العراق محطة رئيسَة في عملي، شكّل الربيع العربي نقطة تحوُّل أخرى على المستويَيْن المهنيّ والشخصيّ على حدٍّ سواء. فقد غطَّيت أحداثه في مصر وليبيا واليمن، لكن الثورة السورية كان لها التأثير الأعمق في نفسي. كانت سوريا أول بلد عربي أزوره عندما كنت شاباً، وهناك لمست للمرة الأولى معنى الديكتاتورية الحقيقية، إذ أدركت منذ زيارتي الأولى في عهد حافظ الأسد حجم العنف السياسي الذي يُهَيْمِن على المشهد.

لذلك عندما اندلعت الاحتجاجات ضد النظام الحاكم في سوريا سارعت إلى تغطيتها، وفي أيلول/سبتمبر العام 2011 كنت أوّل صحافيّ غربيّ يدخل البلاد سرّاً. توجهت إلى حمص عبر لبنان في شباط/ فبراير العام 2012. كما دخلت حلب من تركيا في تموز/يوليو العام 2012 حيث كانت المعارك في ذروتها. وفي رحلتي الرابعة وثّقت حصار القصير على يد “حزب الله” اللبنانيّ وقوات النظام السوريّ، وشهدت مأساة البلدة عن كثب.

أما الزيارة الخامسة، فكانت الأخيرة. توجهت إلى الرقَّة، المدينة التي أصبحت أول مركز محافظة يخرج عن سيطرة النظام. أردت أن أرى كيف تُدار الحياة هناك تحت حكم الفصائل المعارضة، بما في ذلك الجماعات الجهاديّة التي بدأت تفرض نفوذها. كان هدفي أن أفهم آليات حكمهم قبل أن أكمل طريقي نحو دير الزور التي لم أصل إليها قطّ.

 

يوم العقاب نقلوني من غرفة تعذيب إلى أخرى وانهالوا عليّ ضرباً وعلقوني من أطرافي ثم ضربوني مجدداً. كان المكان أشبه بمصنع للتعذيب

 

الاحتجاز الأول في الرقّة

وصلت إلى المدينة بعد رحلة طويلة من تركيا، وسرعان ما بدأت عملي متنقلًا بين السكان، أستمع إلى قصصهم عن ماضيهم وآمالهم للمستقبل. كان المشهد يحمل تناقضات واضحة، فَرْحة الخلاص من النظام اختلطت بقلق شديد إزاء التحدّيات المقبلة، وبالرغم من ضبابية المشهد كانت الأجواء إيجابيّة بشكل عام.

لم يمضِ وقت طويل قبل أن تتبدد هذه الأجواء. فقد اختُطف رئيس المجلس المحلي الذي كان قد انتُخب لقيادة المرحلة الانتقالية، ولم يُعرف عنه شيء بعد ذلك. لاحقاً، تبيّن أنه وقع في قبضة داعش ولم يُعرف مصيره حتى اليوم.

لم يخطر في بالي أن المصير ذاته قد يكون بانتظاري. ومع أنني كنت على دراية بحوادث الاختطاف التي طالت صحافيّين آخرين، ولم أكن أحقِّق في قضية رئيس المجلس المحليّ أو أبحث في تفاصيلها، إلّا أنّ ذلك لم يشفع لي. ففي وضح النهار، وبينما كنت أعبر أحد الشوارع، توقفت سيارة فجأة ونزل منها ثلاثة رجال ملثّمين، انقضّوا عليّ قبل أن أتمكن من الهروب وألقوا بي في السيارة وانطلقوا مسرعين.

في المقعد الخلفيّ، جلست بين مسلَّحَيْن قيّدوا يديّ بالأصفاد وغطّوا وجهي بقطعة قماش. لم تواجه السيارة أي عوائق عند الحواجز العسكرية وهو ما أكّد لي أنني في قبضة جهة نافذة. بعد حوالي خمس عشرة دقيقة، توقفت السيارة وأنزلوني في مكان مجهول، ثم أزالوا العصبة عن عينيّ والأصفاد من يديّ، لأجد نفسي داخل حمام صغير، تحوّل إلى أول زنزانةٍ لي، فيها نوافذ مدعّمة بقضبان معدنية. كان ذلك في 22 حزيران/ يونيو العام 2013، اليوم الأول من اعتقالي.

بينما كنت أحاول استيعاب وضعي، تأرجحت مشاعري ما بين الأمل واليأس. في تلك الليلة، جاء السجّان بوجبة من الخبز والجبن والطماطم، لكن حلقي كان مشدوداً وبالكاد استطعت ابتلاع لقمة واحدة. كان ذهني يعمل بسرعة محاولاً فهم ما يحدث، ثم أدركت أنّه عليّ الاستعداد لاحتمال أن يستمر هذا الأسر لفترة طويلة، أو حتى أن ينتهي بمأساة.

بحثتُ عن أيّ وسيلة للحفاظ على لياقتي الجسدية والعقلية. كنت أتحرّك في الزنزانة وأرقص على وقع موسيقى متخيَّلة، ولكسر الرتابة بدأت أراقب السجّانين وأطلقت عليهم ألقاباً سخيفة لمساعدتي على التعرف عليهم.

مع مرور الوقت، بدأت فكرة الهروب تسيطر على تفكيري حين لاحظت أن قضبان نافذة الزنزانة ليست بالقوة التي تبدو عليها. خطر لي أنه يمكنني كسرها، لكنني كنت أراهن على أمل أن يضغط أصدقائي في المدينة لإطلاق سراحي، ولذلك تردّدت. غير أن الأمور اتخذت منحى آخر في الليلة الثالثة، حين قرّرت أن أخاطر.

طلبتُ من السجّانين كرسياً استعملته للوصول إلى النافذة، ومكنسة استعملتها كرافعة. حاولت دفع القضبان لكنها لم تتحرك، وأدركت حينها أنني لا أملك القوة الكافية، لكنني لم أستسلم. دفعت مجدداً بكل ما لديّ حتى انثنى أحد القضبان قليلًا. لكن شعرت أنني في مأزق، فإذا ما لاحظوا ذلك ستكون العواقب وخيمة. لم يكن أمامي من خيار سوى انتزاعها بالكامل، وبعد محاولات مضنية نجحت أخيراً وتسلَّلت عبر النافذة إلى الخارج، وركضت في الظلام.

في الأفق، رأيت أضواء المدينة وانطلقت راكضاً عبر الصحراء متوقِّعاً في كل لحظة أن أسمع طلقات الرصاص، لكن لم يرَني أحد. واصلت الركض حتى بزوغ الفجر ووصلت إلى أطراف الرقّة، هناك لمحت رجلين يخرجان من أحد المنازل بملابس النوم، استجمعت قواي وطلبت مساعدتهما فأخذاني إلى مركز الشرطة المحلي، لكن ما لم أكن أعلمه أن هذا المركز كان تحت سيطرة داعش.

كان ذلك أسوأ يوم في حياتي، يوم العقاب. نقلوني من غرفة تعذيب إلى أخرى وانهالوا عليّ ضرباً وعلقوني من أطرافي ثم ضربوني مجدداً. في الغرف المجاورة، سمعت صرخات أخرى وأصوات تعذيب بلا توقف، كان المكان أشبه بمصنع للتعذيب.

انتهى هذا الكابوس عند غروب الشمس، عندما لم يعد جسدي قادراً على التحمُّل. لكن قبل إعادتي إلى الزنزانة، تظاهر اثنان من السجّانين بأنهما سيُعدِماني، كان الألم شديداً لدرجة أنني طلبت منهما إطلاق النار فعلاً.

بعد ذلك، أعادوني إلى الزنزانة مكبل اليدَيْن والقدمَيْن وقيَّدوني إلى أنبوب على الحائط. بقيت على هذه الحال 11 يوماً مرمياً على الأرض، ثم أخرجوني من الزنزانة في صباح أحد الأيام وكان حينها ضغط دمي منخفضاً للغاية بسبب قلة الحركة، لم أستطع الوقوف ربما لأنني كنت مذعوراً، ثم فجأة أظلم كل شيء وفقدت وعيي.

 

كانت الأيام طويلة بلا أي أحداث، مجرد فراغ قاتل، كنا نمضي الساعات مستلقين في الزوايا نحاول النوم، لنغرق في عالم من الأفكار المظلمة وننسى الجوع.

 

الدوران في حلقة مفرغة

بعد ذلك، قُيّدت يداي وعُصبت عيناي قبل أن يُلقوا بي في صندوق سيارة، حيث وجدت بجانبي الصحفي الفرنسي بيير، الذي اعتقلوه بعدي بساعات. استغرق طريقنا يوماً كاملاً حتى وصلنا إلى حلب، وبالتحديد إلى مستشفى العيون الذي أصبح ثاني أماكن احتجازي. في الإجمال مررت بعشرة مواقع مختلفة في خلال فترة اعتقالي متنقلاً بين الرقّة وحلب وإدلب، قبل أن أعود إلى الرقة مجدداً. في كل مرة، كنت أُنقل في ظروف قاسية، داخل صناديق سيارات أو شاحنات أو بيك أب، مقيداً ومعصوب العينين.

على مدار الأشهر الطويلة، التقيت برهائن آخرين، حتى بلغ عددنا في النهاية 25 محتجزاً في غرفَتْين متجاورتَيْن، 19 رجلًا وستّ نساء، جميعهم غربيّون، إما صحافيّون أو عمال إغاثة.

في الليلة الأولى لي في حلب، زارني في زنزانتي أحد الجهاديّين الفرنسيّين. كان يتلذذ بتخويفي، وعلمت أن اسمه الحركيّ هو “أبو عمر”. لاحقاً، تعرّف العالم على اسمه الحقيقي بعد هجوم المتحف اليهودي في بروكسل: مهدي نيموش، وهو أول سجّانِيّّ الذين غادروا سوريا لتنفيذ هجمات في الغرب.

عشت في قبو مستشفى العيون، الذي تحول إلى سجن وغرفة تعذيب. كانت الليالي هناك قاسية، ممتلئة بصراخات المعتقلين التي تتردّد من صلاة المغرب حتى الفجر. فقد كان السجّانون يتسلّون بنا وغالباً ما يأتون للاعتداء علينا عند منتصف الليل.

أما في الخارج فقد كانت الحرب مستمرة، وتعرض المكان في الأسابيع الستة التي قضيناها هناك لسبع غارات جوية، إحداها دمرت نافذة الحمّام الذي كنا نؤخذ إليه. ربما قتلت تلك الغارات بعض الجهادّيين.

أثناء احتجازي التقيت عدداً من زملائي الرهائن، أحدهم كان قد تعرض لتعذيب وحشيّ أصبح بعده كالشبح، لدرجة أنني فزعت عندما رأيته لأوّل مرّة. هناك بدأت المفاوضات من أجل إطلاق سراحنا، وكنا نصور مقاطع فيديو لعائلاتنا، نجيب فيها عن أسئلة سرّيّة لإثبات أننا لا نزال أحياء، مثل “ما اسم الحصان الذي تركب عليه ابنتك؟”، “فريتزي”.

لم أكن أنام جيداً، وظهرت بقع حمراء على ظهري، لم أكن أعلم إن كانت بسبب الطفيليات أو نتيجة التوتر، ثم أصبنا بالقمل.

في نهاية آب/أغسطس، نُقلنا إلى مكان آخر خارج حلب، ورشة نجارة صناعيّة في منطقة الشيخ نجار. هناك التقينا بثلاثة جهاديّين بريطانيّين، كان عدد من زملائي الرهائن، بمن فيهم جيم فولي وجون كانتلي، قد التقوا بهم قبل أشهر وأطلقوا عليهم لقب “البيتلز”، وقد قيل لنا إن وحشيَّتهم لا حدود لها.

كان “البيتلز” مهتمين بفكر التنظيم الجهادي، يشرفون على تصوير مقاطع “إثبات الحياة” بزي برتقالي أمام راية سوداء تحمل الشهادة بالخط الأبيض. في أحد تلك الفيديوهات، عمدوا إلى قص شعرنا، وتخيّلت نفسي في صالون حلاقة، وقلت لجهادي يدعى جون: “ميليمتر واحد إلى أسفل، وميليمتران حول الرأس”، الفرنسيون دائماً زبائن سيِّئون!

مع مرور الوقت، أصبح الجوع مشكلة حقيقيّة. الحصص الغذائية كانت ضئيلة، مجرد قليل من الأرز وشريحة خبز، وأحياناً لا شيء على الإطلاق. في 11 أيلول/سبتمبر، جاء أبو عمر ليتهكم علينا: “اليوم عطلة يا شباب، لا أعمل اليوم لذلك لا طعام لكم”، ثم تركنا مع بطون خاوية.

كانت الأيام طويلة بلا أي أحداث، مجرد فراغ قاتل، كنا نمضي الساعات مستلقين في الزوايا نحاول النوم، لنغرق في عالم من الأفكار المظلمة وننسى الجوع.

في ليلة عيد الميلاد، وعدونا أنه سيُطلق سراحنا ونقلونا مرة أخرى وأيدينا مقيدة خلف ظهورنا بأربطة مؤلمة، وعندما اشتكى البعض من شدتها، اقترب أحد الجهاديّين وشدّها أكثر.

وصلنا إلى قبو جديد في منطقة ريفية، ربما في محافظة إدلب. في البداية تحسَّنت الظروف وزادت حصص الطعام، لكن سرعان ما بدأنا نسمع أصوات القتال. اختفى خاطفونا تقريباً، ولم يبق هناك شيء للأكل. كانت الفصائل الثورية قد بدأت حربها ضد داعش وطردته من إدلب وحلب، وحصرته مجدَّداً داخل محافظة الرقّة.

 

أواجه جلاديَّ في قاعات المحاكم حيث يُقدَّمون للعدالة، أواجههم بما فعلوه بي وبأصدقائي وبشعوب سوريا والعراق. لأن العدالة في النهاية هي الردُّ الوحيد.

 

 

“ألن نتوقف؟”

لم يكن التنقّل الأخير مختلفاً عمّا سبقه. وُضعنا في مؤخرة مركبة مقيَّدين بالأصفاد ومرتدين الزِّي البرتقالي لمنعنا من الهروب. كنت مقيّداً أنا وجيم فولي بأصفاد واحدة، وبقينا على هذا الوضع أسبوعين كاملين. استمرت الرحلة ثلاث ليالٍ متتالية، وفي إحدى القرى انحرفت المركبة فجأة، واهتزت بقوة كما لو أنها صدمت شيئاً، ثم سمعنا الجهاديين في المقدمة يتلون عبارات دينيّة.

سألت الجهادي الفرنسي عن الأمر، فأجابني “كان طفلًا”، سألته “ألن نتوقف؟”، فردّ بـ”لا”.

بعد سلسلة من التنقلات، أعادونا إلى سجن عند أطراف الرقة وهو ذاته الذي احتُجزت فيه أوّل اعتقالي. كان موقعاً نفطياً قديماً وسط الصحراء، ثم تحول إلى زنزانة مكتظة تضم 19 رهينة في غرفة لا تتجاوز مساحتها 20 متراً مربعاً.

بدأ روتين جديد، لكن هذه المرة كان “البيتلز” أكثر عنفاً، ومع تعثّر المفاوضات زادت قسوتهم في محاولة للضغط على عائلاتنا وحكوماتنا.

في نهاية شباط/فبراير، بدأت الأمور تتسارع وسط الحديث عن صفقة لإطلاق سراح صحفي إسباني، لكن الجهاديين أرادوا إرسال رسالة واضحة بأنهم إن كانوا قادرين على الإفراج عن الرهائن، فهم مستعدون أيضاً لإعدامهم.

وفي اليوم ذاته، أخرجوا سيرجي، الرهينة الروسي، من الزنزانة بعد تعرّضه لتعذيب شديد أفقده عقله، لم يكن يتحدث إلا بلغته الأم، ما جعلنا غير متأكدين من سبب وجوده هناك. بعد ساعات، عاد “البيتلز” حاملين صوراً لجثته، وأجبَرونا على النظر إليها ووصف الجرح الغائر في جمجمته بصوت عالٍ. لاحقاً، اكتشفت أنهم أرسلوا تلك الصور إلى زوجتي لتسريع المفاوضات.

بدأت عمليات الإفراج تدريجياً بمجموعات صغيرة كل أسبوعين، وأُفرج عن النساء العاملات في المنظمات الإنسانية أولاً، ثم تبعهن صحافيّان إسبانيّان. ومع كل عملية إطلاق سراح، كانوا يحرصون على أن يكون الرهائن المفرج عنهم في حالة جسدية يرثى لها، لإيصال رسالة واضحة بأن الباقين تحتجزهم جماعة لا تتردّد في استعمال العنف.

وأخيراً، جاء دورنا. ثلاثة صحافيّين فرنسيّين نُقلنا إلى الحدود تحت إشراف جهاديّ تونسيّ قديم. استقبلنا الجنود الأتراك ونقلونا إلى المستشفى، ثم إلى مركز الشرطة، حيث واجهنا أول عقبة في حريتنا، إذ لم تتفهم السلطات التركية سبب عدم امتلاكنا أوراقاً رسمية، فاحتجزتنا ليلة كاملة.

في الصباح، وصل فريق من السفارة الفرنسية، وأجرينا مكالمة سريعة مع الرئيس الفرنسي ثم مع عائلاتنا. أخيراً، سُمح لنا بالمغادرة، وانتهى الكابوس بعد 300 يوم من الأسر.

 

“العدالة” هي الردّ الوحيد

بالنسبة إليّ انتهى كل شيء، لكن بالنسبة إلى الآخرين كان الأمر مجرد بداية. فبعد شهر من إطلاق سراحي، وقع هجوم على المتحف اليهودي في بروكسل أدّى إلى مقتل أربعة أشخاص واعتقال المُنفّذ. حين رأيت صوره في وسائل الإعلام أدركت أنني أعرفه، كان أحد السجّانين المشرفين على تعذيبي.

في ذلك الوقت، كان حوالي 15 رهينة غربياً لا يزالون مُحتَجزين، كنت على تواصل مع عائلاتهم أطمئنهم كلما سمعنا عن إطلاق سراح أحدهم.

لكن في آب/أغسطس، تغيّر كل شيء حين استيقظت على صور جيم فولي منتشرة في وسائل الإعلام. أعدمه “البيتلز” ونشروا الفيديو على الإنترنت بنفس نهج قائدهم أبو مصعب الزرقاوي، الذي قطع رأس نيكولاس بيرغ في العراق قبل عشر سنوات.

بعدها، لم تأتِ أي أخبار جيدة، ولم يعد هناك أخبار تعلن عن تحرير أحد، فقط مقاطع إعدام تُنشر بوتيرة ثابتة. قُتل جميع أصدقائي الأسرى واحداً تلو الآخر، باستثناء جون كانتلي الذي استعمله داعش في دعايته، ثم اختفى ليبقى مصيره مجهولاً حتى اليوم.

لكن القصة لم تنتهِ هنا، فمع وقوع هجمات باريس في تشرين الثاني/نوفمبر العام 2015 وهجمات بروكسل في آذار/مارس العام 2016، رأيت وجوهاً مألوفة في التقارير الإخبارية. بعض الجهاديين الذين سجنوني شاركوا في تنفيذ تلك الهجمات.

اليوم، أواصل طريقي في الدفاع عن الثورة السورية أمام الجمهور الغربي محاولاً كسر الصورة النمطية التي تربطها بالإرهاب. أتحدَّث في السجون والمدارس والمؤتمرات لأشرح أن العنف ليس قدراً وأن الانتقام ليس الحلّ.

لكن الأهم من ذلك، أنني أواجه جلاديَّ في قاعات المحاكم حيث يُقدَّمون للعدالة، أواجههم بما فعلوه بي وبأصدقائي وبشعوب سوريا والعراق. لأن العدالة في النهاية هي الردُّ الوحيد.

 

الكاتب

نيكولاس هينين (Nicolas Henin) صحافيّ فرنسيّ ومؤلف كتاب “أكاديميّة الجهاد”. احتجزه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كرهينة لمدّة 300 يوم بين العامَيْن 2013 و 2014.