عمل صاحب هذه الشهادة في سجون مختلفة، ومارس أدواراً عديدة ومختلفة في خدمة سلطاتٍ وجهاتٍ عسكريّة متناقضة، ووصل به الأمر في العام 2014 أنْ بات موظّفاً في سجن الملعب البلدي التابع لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في الرقّة. فَضّلنا في هذا النص إغفال اسمِه الكامل لِدَواعٍ أمنيّة وسنشير إليه بالحرفين ر.ج.
التقْينا الشاهد في إطار العمل على توثيق ودراسة سجن الملعب. فأدلى لنا بملاحظاته ومشاهداته التي جمعها أثناء تنقّله في السجن وأحاديثه مع عناصر التنظيم أو تعامله مع المُعتقَلين أحياناً.
بعد هزيمة التنظيم في الرقّة، اعتُقل ر.ج. عند “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، واتهم بالتعاون مع التنظيم، ولاحقاً أُطِلق سراحه لأنّه لم يكنْ عسكريّاً ولم يلعب دوراً قياديّاً، وبالتالي حصل مجدّداً على عملٍ في أحد سجون “قَسَد”.
في شهادته هذه روى ر.ج. بعضاً من سيرته الشخصية، أو فلنَقل سيرته المِهنيّة، التي تكشف جوانب من شخصيّته، كما حكى عن مشاهداته انطلاقاً من دوره كمُجَنَّد في قوات النظام السوري، ثم كسجّان في أحد سجون “فصائل المعارضة”، ثمّ مرةً أخرى في سجن الملعب التابع لتنظيم الدولة، وصولاً إلى عمله الحالي الذي لا يزال يمارسه حتى تاريخ نشر هذه الشهادة.
يَتَدرَّج النص التالي في سيرة الشاهد، كما رواها، وينقل عن لسانه معلوماتٍ وتفاصيلَ كثيرة ومهمة عن سجن الملعب، كنموذج عن سجون “داعش” الأمنية التي شكّلَت محوراً أساسياً في نظام العنف عند التنظيم.
ولد ر.ج. ونشأ في مدينة الرقّة السّوريّة، وبعد إنهائه دراسة المرحلة الثانوية، التحق بأحد المعاهد المهنيّة في دمشق وتخرج منه العام 2010. نفّذ بعدها خدمتة العسكريّة الإلزاميّة والتحق بقوات الشرطة. لكنه قبل أن ينهي دورة التدريب العسكري في حرستا بريف دمشق، والتي تستغرِق عادةً ستَّة أشهر، انطلقت حركة الاحتجاجات الشعبية ضد النظام السوريّ في منتصف آذار/مارس العام 2011.
يروي ر.ج. كيف شارك إلى جانب قوات النظام في قمع المتظاهرين، بدءاً من محافظة درعا في جنوب البلاد وصولاً إلى إدلب في شمالها. في الشهر الأول من أحداث الثورة كان الشاهد في ملعب “الجلاء” لكرة القدم في دمشق، ضمن فريق “الشرطة” الرياضي الذي كان يتهيَّأ لمباراةٍ مع فريق “الاتحاد”. لكن أُلغيت المباراة وأمرهم الضباط بالصعود إلى الحافلات التي نقلتهم إلى مدينة درعا، للمشاركة في قمع المتظاهرين هناك.
عن تلك الحادثة يقول: “نقلونا إلى بلدات الشيخ مسكين وتسيل وداعل والشجرة في محافظة درعا. وفي مخفر للشرطة في بلدة الشجرة حاصَرَنا المُحتجّون أربعة أيام قبل أن يساعدنا بعض الأهالي على الفرار، فلجأنا إلى مقر كتيبة الهاون على بعد نحو أربعة كيلومترات من الحدود بين سوريا وإسرائيل”.
ثمّ نقلت مجموعته إلى مقرّ كتيبة حفظ النظام في حرستا في ريف دمشق، ثم إلى إدلب لقمع المتظاهرين، وذلك بحسب تعبيره. وفيما هو يتكلّم ارتكب زلّة لسان إذ أفلتَتْ منه كلمة تعزير (قال: وبعد ثلاثة أيام من خضوعنا للتعزير). وكلمة “التعزير” هي من المصطلحات المستعمَلة في لغة تنظيم الدولة الإسلاميّة، والمقصود بها معاقبة العناصر عند ارتكابهم مخالفات. وعندما استوضحه المحاور عمّا إذا كان يقصد بالتعزير السجن، أجاب: “نعم، نعم السجن”.
وحكى ر.ج. في حديثه عن حوادث اعتماد النظام السوريّ العنف ضدّ المتظاهرين، مؤكّداً أن قوات الأمن كانت تُطلِق الرصاص الحي والقنابل الدخانية عليهم في مدينة إدلب، كما في مدينة سراقب حيث أُمر عناصر مجموعته بإطلاق النار على المتظاهرين.
ويذكر حادثة أخرى: “كنا في درعا عندما قادنا ضابط فرقتنا إلى المسجد العمري ذات ليلة، وأمرنا بتكديس أسلحة وذخائر فيه، فنفّذنا أوامره وبتنا ليلتنا في المسجد، وفي صباح اليوم التالي وصل فريق من التلفزيون السوريّ الرسميّ، وصوّر أكداس الأسلحة والذخائر، مدّعياً أنّ المحتجّين استعملوها لقتل المتظاهرين، والتصدي لقوات النظام التي أخرجتهم من المسجد”.
وتابع قائلًا: “عندما دخلنا المسجد، وأدخلنا إليه الأسلحة والذخائر، لم نشاهد سوى بقع من الدماء على جدرانه، وموادّ طبّية كان المحتجّون يستعملونها لإسعاف جرحاهم بعد إطلاق النار عليهم في المظاهرات”.
فيما بعد انتقل ر.ج. إلى طرطوس، “حيث كانت الحياة طبيعية”، بحسب تعبيره، “لأن غالبيّة سكانها من مؤيّدي النظام”. وأضاف: “مكثتُ تقريباً سبعة أشهر في طرطوس، وشاركتُ في حماية المَسِيرات التي كانت تخرج في المدينة تأييداً لرأس النظام بشار الأسد”. هناك كان قراره بالانشقاق والفرار قد نضج، فسلك طريقه إلى مدينته الرقّة التي كانت قد خرجَتْ في حينه عن سيطرة النظام.
تَحَوَّلت الرقّة العام 2013 من سيطرة النظام السوريّ إلى سيطرة الفصائل المعارضة التي ارتبط بعضها بـ “الجيش الحر”، وغلبت عليها الفصائل الإسلاميّة مثل “جبهة النصرة”، و”أحرار الشام”. وقد أسَّست تلك الفصائل هيئاتٍ شرعية وسجوناً تابعة لها، اختّصت بالشؤون العسكريّة والأمنيّة والجنائيّة والمدنيّة.
بعد انتقاله إلى الرقّة، بدأ ر.ج. العملَ كسجّان في سجن “المحكمة الإسلامية”، التي أنشأتها الفصائل الإسلامية، في مبنى الأمن الجِنائيّ الحكومي في الرقّة، قبل تفرّد “التنظيم” بالسيطرة على المدينة.
يقول ر.ج. إن سجن “المحكمة الإسلاميّة” الذي عمل فيه، كان مخصّصاً للتوقيف “المؤقت”، في انتظار “الصلح” بين الموقوفين ممن قدّم أحدهم شكوى ما ضد آخر، فـ “يُخلى سبيلهم” ولا يتعرضون للتعذيب “إلا نادراً”. أما العقوبة فكانت “الجلد لمن يسرق أو ينهب، ولمن يفتعل مشكلة ما في السجن أثناء توقيفه المؤقت”.
لم يفصح الشاهد، في حوارنا معه، عن ظروف ودوافع عمله إلى جانب الفصائل، كما لم يوضح، أسباب عمله لاحقاً مع تنظيم الدولة.
مع سيطرة “داعش” على الرقّة مطلع العام 2014، استمرّ ر.ج. في العمل في سجن المحكمة ذاتها، وكان التنظيم قد حوَّلها إلى ما يعرف بـ “النقطة 11″، واستمر في اعتمادها كَسِجْن، قبل نقلها إلى ملعب المدينة الرياضيّة الذي أصبح أخطر سجون “داعش” في الرقّة. يؤكد الشاهد أن قرار النقل إلى الملعب، كان أمنياً كونه “يحتوي أقبية حصينة ضد القصف، وبنيته التحتيّة أفضل من أي مبنى آخر”. لكن عمله في الملعب، كان في مهامّ وأدوار خدماتيّة وليس كَسَجّان.
خُصص السجن، بحسب ر.ج. لأصحاب التهم الأمنيّة، ومنهم “المنتمون سابقاً إلى الجيش الحرّ وإلى حزب البعث وأجهزة النظام، إذ كان التنظيم يلقي القبض على هؤلاء بدون أيّ تحريات عنهم”. ويضيف، “كان أيّ شخص على خلافٍ أو عداوة مع شخص آخر، يأتي إلى الملعب ويقدّم تقريراً يفيد بأن الآخر عمل لصالح النظام أو الجيش الحرّ، فيعتقله عناصر التنظيم مباشرة ويسوقونه إلى الملعب”.
شغل السجن الطابق السفليّ تحت الأرض من الملعب الرياضيّ في الرقّة، والذي كان يحتوي على قاعات رياضية وغرف ودورات مياه (حمامات) للرياضيّين. وقد جهّزها التنظيم لتصبح سجناً منيعاً. قسّم السجن إلى قسمَيْن فَصَل التنظيم بينهما فصلاً محكماً بجدارين بناهما، منعاً لنفاذ حتّى الأصوات بينهما، وكان لكل منهما مدخل خاص:
– القسم الشماليّ كان تابعاً لـ “ولاية الشام”.
– القسم الجنوبيّ كان تابعاً لـ “ولاية الرقّة”.
وفي القسمين صُمِّمت الزنزانات على غرار العنابر في السجون العادية، وكان عددها خمس زنزانات تقريباً في كل قسم، ولا يتجاوز طول الواحدة منها المترين وعرضها المتر الواحد، ويُسجَن فيها ما بين 30 و 50 معتقلاً، إضافةً إلى زنازين انفراديّة جُهِّزت لها عموماً حمّامات الملعب الرياضيّ السابق. وفي كلّ قسم خُصِّصت مكاتب لكل من القاضي وعناصر التنظيم، وغرف للتحقيق وللأرشيف. وكان في الزنزانات كاميرتان اثنتان، تزيد إلى ثلاث في الانفراديّات.
وبحسب الشاهد، قُسمت الزنازين إلى قسمَيْن: أحدهما للمدنيّين، وفيه قسمٌ خاص بالنساء منفصلٌ عن قسم الرجال. والآخر مخصص لعناصر التنظيم وأمرائه الذين يُسجنون بِتُهم مختلفة وغالباً ما يوضعون في القسم الشماليّ التابع لـ”ولاية الشام”، إلا أن هؤلاء كان يُحقَّق معهم قبل سجنهم، على خلاف المُتَّهمين الآخرين الذين يُعتقلون من دون الخضوع للتحقيقات.
اشتملت الزنازين، التي يُحشَر فيها عددٌ كبير من المعتقلين، على حمام فيه مياه ساخنة بحسب قول الشاهد، أما الزنازين المنفردة فكان على نزلائها قضاء حاجتهم في أكياسٍ “إمعاناً في تعذيبهم”، كما كانوا يُعلقون بسلسلة معدنية مثبتة في سقف الزنزانة، ومتصلة برافعة، فلا تلامس أرض الزنزانة سوى أصابع أقدامهم، وهو ما يعرف بوضعيّة “الشبح”.
ومن الأساليب الأخرى في تعذيب المعتقلين في المنفردات، إخراج أيديهم من فتحاتٍ صغيرة في الأبواب، وتقييدها بأصفادٍ معدنية، فلا يستطيع أحدهم الحركة أو الجلوس. ويضاف إلى هذين الأسلوبين الجلد والحرق والطعن بسكين حادّة بُغْية تشويه السّجين.
“أسهل طرق التعذيب” في سجن الملعب، بحسب كلام ر.ج.، كان إخراج المعتقل من غرفة التحقيق، وإرغامه على الوقوف في الممرٍّ لوقت طويل بلا حراك. وإذا شوهد بواسطة الكاميرات يتحرّك أو يُقرفص، يُضاعَف وقت وقوفه. فقد روى أنه صادف مرة شخصاً يقف في ممرّ السجن بعد توزيع وجبة الغداء، ثم وجده مساءً وفي صبيحة اليوم التالي واقفاً في المكان نفسه.
أما النساء السجينات في الملعب فكان الجلد هو أسلوب تعذيبهن الوحيد للحصول على اعتِرافاِتهنّ، وكانت تلك المهمة موكلة إلى “المجاهدات المهاجرات السعوديات أو القادمات من أوروبا”، إذ كانت ثقة التنظيم بهن “أقوى بكثير من ثقتهنّ بالمجاهدات المحليّات أو بزوجات مجاهدي الرقّة”.
في حديثه عن الإعدامات التي نُفِّذَت ببعض المُعْتَقلين في سجن الملعب، ميّز الشاهد بين نوعين:
وذكر أن إعدام هؤلاء كان يُنفذ في غرفة تلاصق مطبخ السجن، وأن عدد من نُفذ بهم حكم الإعدام كان ثلاثة إلى أربعة في الأسبوع الواحد، معظمهم كانوا من “المشبوحين في الزنازين المنفردة”، وقد شاهد بعضهم “يفارق حياته أثناء التعذيب”.
يروي ر.ج.: “أحد هؤلاء كان شخصاً في حوالى الخمسين من عمره أبصرتُهُ في إحدى المنفردات، مررتُ يوماً أمام زنزانته وكان جسمه بارداً أصفر اللون. وحين أخبرت الأمير المسؤول بذلك قال لي: اتركه حتى يحين أجله، وبعد يومين أتى من حمل جثته وأخذها”.
كما يذكر أن عناصر التنظيم اقتادوا مرة رجلاً مقيَّداً معصوب العينيْن، وتركوه في غرفة الإعدام، وبعد انصرافهم سمعَ الرجل ينادي بلهجة سعوديّة متسائلاً إن كان أحداً يسمعه. عندما سأله الشاهد عن قصته قال: “والله لا أعلم، مضى 27 يوماً على توقيفي، أنا سعودي ومسؤول عن كتيبة أبي بكر الصديق الأمنية والقتالية، وكان عنصران من التنظيم قد جاءا إليَّ وأخبراني أننا سنزور الشيخ أبو محمد الأنصاري، ولما وصلنا إلى الملعب قيَّدا يديَّ وعصبا عينيَّ قائلين إنني أريد الهروب من التنظيم. ومرّ 27 يوماً لم أُعرض فيها على قاضٍ ولم يحقّق معي أحد، أريد أن أعلم أين أنا، وفي أية غرفة؟ فقلت له: أنت سوف تقتل في الأغلب”.
كان سجن الملعب أمنيّ الطابع، والمُعتَقلون فيه اعتبروا جميعاً “خطرين”، سواء كانوا من المدنيّين أم من عناصر التنظيم. كما عُصبت بإحكام عينيّ كل معتقل كان يؤتى به إلى الملعب، فلا يستطيع أن يرى شيئاً سواء في غرف التحقيق أم في الممرّات، قبل إدخاله إلى زنازين السجن أو إلى إحدى المنفردات.
الزنازين المنفردة، بحسب الشاهد، كانت مخصصة غالباً للمعتقلين الذين يُتوقع منهم الإدلاء بمعلومات عن أشخاص آخرين، كما استُعمِل بعضُها لاعتقال “الكرد الذين لم يغادروا المنطقة”ـ معللاً سجنهم بأن التنظيم “قرّر ترحيل الكرد من مناطق دولته إلى تدمر، أو إلى أية منطقة يختارونها خارج سيطرته”.
يلفت الشاهد إلى أنّ لقب “الشيخ” سبق دائماً ذكر أسماء محقِّقي التنظيم، وبحسب قوله “لم يكن المحقِّقون يُهينون أو يعنّفون المتَّهمين لفظياً، بل جسدياً، كأن يُحقَّق مع المتهم جاثياً على ركبتيه، ووجهه إلى الجدار، ويُضرب بعصا أو بسوط على ظهره. وأحياناً يُرهبه المحقّق بمسدس، وقد يُطلق بجانبه النار من مسدّسه ترويعاً”.
يقول ر.ج. إنّ معتقلي الملعب لم تصدر بحقهم أحكامٌ متنوّعة، بل حكمان فقط لا ثالث لهما: “البراءة والخروج من السجن، أو الإدانة والقصاص والبقاء في السجن إلى أمد غير مُحدَّد”. كما لا توجد أحكام تُحدِد مدة الاعتقال في سجن الملعب الأمني. والأحكام بالبراءة لم تكن “نسبتُها تتجاوز الخمسة في المئة من المعتقلين”.
ويضيف أن “أمير السجن أبو لقمان هو من قرّر ألّا تزيد، وألّا تقلّ، مدّة توقيف السجين في الملعب عن أربعة أشهر. واستمر هذا القرار سارياً مع تسلُّم أبو علي الأنباري منصب أمير السجن مدة شهرين قبل مقتله، ليخلفه أبو أيوب”. أما بعد الأشهر الأربعة فيُصار إلى البَتِّ بأمر السجين، بحسب الشاهد: “إمّا يُبرأ ويُطلق سراحه، إذا لم يعترف بما هو متَّهم به، وإمّا يتواصل سَجنُه ويُحال إلى القصاص، في حال اعترافه بتهمته”.
أعداد المحققين داخل السجن تراوحت ما بين أربعة إلى خمسة، كان يعاونهم ما بين 10 و15 عنصراً من الحرّاس، داخل السجن وخارجه. ولم يكن المحقّقون يكشفون عن وجوههم إلا في أوقات أدائهم الصلاة. أما سجناء الزنازين فكانوا يصلون فيها جماعة ويؤمهم شخص منهم ينادونه الشيخ، بحسب رواية الشاهد الذي أضاف: “حين سمع عناصر التنظيم مرةً إمام صلاة في إحدى الزنازين يدعو ضدّ الظلم والظالمين، أوقفوا الصلاة، وسجنوا الإمام في منفردة ولم أرَه بعد ذلك. ربما قتلوه”.
في شهادة ر.ج. عن الأوضاع الصحيّة في سجن الملعب، يقول إن “الدولة (أي تنظيم الدولة) عندما كانت حديثة العهد بعدُ، لم يكن عندها أطباء ولا ممرضين للعناية الصحية بالمعتقلين. أما بعد أن ثبّتت أركان سلطتها، فقد صار عندها أطباء وممرضون غير سوريين يعملون في السجن، ويدربون ممرضين سورّيين، فصارت تُجرى بعض الفحوص الطبية للمعتقلين المرضى، وتُقدم لهم الأدوية المطلوبة”.
أما أن يزور المعتقلين أقاربُهم أو أصدقاؤهم “فكان ذلك ممنوعاً”، بحسب الشاهد، “إلا في حالات نادرة، كإعدام معتقل ما، مثلاً، فيأتون بعائلته لمشاهدته قبل يوم من إعدامه، بدون أن يكون على علم بمصيره، بل يبلغونه بأنه سيخرج من السجن بعد أيام من زيارة عائلته، إذا هو لم يحدثْهم عن سبب اعتقاله ولا عن التعذيب الذي يتعرض له، أما إذا فعل فلن يخرج من السجن. والتهمة التي كانت تؤدي إلى الإعدام غالباً ما تكون التخابر”.
وعن الطعام في السجن يذكر ر.ج. أنه سمع من طباخ السجن تفاصيل الوجبات ومعلومات عن نوعه، وقد احتوت وجبة الغداء لحم الضأن أو الدجاج، مع المرق أو اللبن مع الأرز، لمرات خمس في الأسبوع، أما الفطور فتألّف من المربى أو الحلاوة، أو الزعتر والزيت، أو الجبنة والزيتون. والعشاء كانت وجبته من الأصناف المطبوخة.
جُهز مطبخ السجن بمستلزمات الطبخ من أوانٍ كبيرة، ومواد تموينيّة يبتاعها الطباخ من السوق وينقلها في سيارة سلمه إياها التنظيم، وتظل في عهدته طوال اليوم، وكان الطباخ يُدخِل القِدر إلى مهجع المعتقلين الذين يوزّعونه بأنفسهم فيما بينهم. أما معتقلو الزنازين المنفردة، فكان الطعام القليل يوزَّع عليهم في صحون من الفلين، بلا ملاعق، وغالباً ما حرموا من الفطور والعشاء، أو من أي طعام ليومَيْن”.
بحسب ما نقله ر.ج. عن الطبّاخ، كان الطعام نفسه يُقدم للمعتقلين ولعناصر التنظيم من المسؤولين والمحققين والحراس، وكانت مواد التنظيف مؤمّنة، وكان كلّ مهجع يحصل على قطعتَيْن أو ثلاث من الصابون يوميّاً، أما الزنازين المنفردة فكان ينظفّها يومياً العاملون في الطبخ وتوزيعه، لأن سجناءها غالباً ما كانوا مُعَلَّقين مشبوحين بسلاسل الحديد في سقفها.
عمل ر.ج. في سجن الملعب منذ بداية تجهيزه ليصير سجناً، وحتى بدأ التحالف الدولي بقصفه نهاية العام 2016. اشتدّ القصف على الملعب وتوالى مرّات عدة، وكانت الغارة الأخيرة هي الأعنف وذلك بطائرة مسيّرة دخل صاروخها من فتحة التهوية في إحدى الزنازين، فانفجر وقتل جميع من فيها، وكان عددهم 13 معتقلاً. لذا اضطر التنظيم إلى نقل الباقي إلى منزل قريب من الملعب.
انتقل المعتقَلون سيراً على الأقدام، لأن التنظيم لم يستطع تحريك سيارة واحدة من سياراته، بسبب كثافة القصف من طيران التحالف الدوليّ، بحسب ر.ج.، وبما أن عدد المعتقَلين كان كبيراً فقد نُقِلوا على دفعات متتاليَة، تمكّن في الأخيرة منها أربعة معتقلين من الفرار، وبعد مطاردتهم، قُبِض على اثنين منهم، فأُعدما ميدانياً على الفور، بينما نجا الآخران.
لم يُتَّخَذ ذاك المنزل كسجن أكثر من 15 يوماً، وذلك ريثما جُهز مبنى مدرسة قريبة من منطقة محطة القطار. ولم يتعدَّ مكوث المعتقلين في هذه المدرسة شهراً واحداً، فنقلوا مجدداً إلى قبو مستشفى أطفال حديث الإنشاء. في خلال هذه المدة من تنقيل المعتقلين عاش التنظيم حالة من الاضطراب والفوضى جراء كثافة القصف من طيران التحالف الدوليّ.
يقول ر.ج. “سمح لي تخبُّط التنظيم بتنفيذ رغبتي المبيَّتة في تركه وترك عملي في سجنه، رغم أنّه كان بإمكان ذلك أن يعرّضني للقتل. أخبرتُ المسؤول عني أنني أريد الخدمة على الجبهة، وأنْ أُقتل في سبيل الله، فلم يستطِع إجباري على البقاء. وبدل الذهاب إلى الجبهة ذهبتُ إلى بيتي ومكثتُ فيه، ولم أخرج منه إلا بعد خروج التنظيم من مدينة الرقّة ودخول “قوات سوريا الديموقراطية” إليها.
وفي تحوُّلٍ مُتَوَقَّع، تبعاً لسيرته المهنية، عاد ر.ج. لاحقاً ليمارس عمله الأساسيّ، “لمّا سجنتني قسد مدة، استطعت الخروج من السجن بواسطة شخصٍ كرديّ كنتُ قد ساعدته وكفلته لإخراجه من سجن الملعب. وهو من توسّط لي لاحقاً للعمل في أحد سجون قسد كي أتمكّن من إعالة أطفالي”.