“السجن في البلدان الاستبداديّة والمتخلِّفة، يشبه حجز تذكرة ذهاب فقط، إذ إن تذاكر الإياب تكون قد نفدت مسبقاً، وربما هي لم تُطبَع أساساً”

 

 

 

أربعة معتقلات

عند الحديث عن سوريا في ظلّ حكم عائلة الأسد، لا بدّ من القول بدايةً إنّ التّعريفات والمصطلحات والمفاهيم المُتَواضَع عليها في علوم السياسة والاقتصاد والقانون… لا تنطبق على الواقع السوريّ. ولهذا يتوجب علينا هنا أن نميّز بين السّجون القضائيّة والسياسيّة من جهة، وبين السجون السياسية والمُعْتَقلات من جهة ثانية.

أمّا أنا، فقد اعتُقِلتُ أربع مرّات، في المرّة الأولى عند المخابرات الجوّيّة في العام 1978 بتُهمة المشاركة في إصدار مجلة أدبيّة سرّيّة أو معارضة أو غير مرخّصة، تُعْنى بنشر الشّعر والقصّة القصيرة، وقد يكون السبب الآخر أني في ورقة الاستفتاء على رئاسة حافظ الأسد، اخترت الـ”لا” وليس الـ”نعم”.

في المرّة الثانية اعتقلتني المُخابرات العامّة، وذلك في اليوم التالي لخروجي من المخابرات الجوية حيث أمضيت بضعة أشهر. جرى الاعتقال في شقّة في مُخَيَّم اليرموك يسكنها ويتردّد عليها بعض المثقّفين والناشطين السياسيّين اليساريّين. 

أمّا المرّة الثالثة فكانت عند المخابرات العسكريّة في العام 1987، وذلك بعد أربع سنوات من التخفّي والملاحقة، وذلك لكوني عضواً في حزب العمل الشيوعيّ في سوريا. وقد دام اعتقالي هذه المرّة قرابة أربعة عشر عاماً. 

هذه الاعتقالات الثلاثة حدثت في مدينة دمشق، غير أن الاعتقال الرابع كان على يد جهاز الشّرطة في إدارة الهجرة والجوازات في مدينة حمص، ولكن لصالح فرع الأمن السياسيّ في حلب الذي نسي أنْ يُلْغي برقيّةً كان عمَّمها قبل خمسة عشر عاماً تتضمّن أمراً بإلقاء القبض عليّ.

وبذلك لم أترك فرصة العتب عليّ لأيّ واحد من أجهزة مخابرات الأسد الأربعة، الجوية والعامة والعسكرية والسياسة، بَيْد أنّي سأركّز في حديثي هنا على الاعتقال الأطول عند المخابرات العسكريّة.

في خلال سنوات التخفّي نجَّتني المصادفات من عدد من الكمائن والأفخاخ الأمنيّة، وربّما كان هذا أحد أسباب احتفالهم باعتقالي.

ففي صبيحة 31 آذار/مارس العام 1987 طوَّق فرع فلسطين (الفرع 235) التابع للمخابرات العسكريّة أحد أحياء مُخيَّم فلسطين واعتقلني. كانت الشوارع والأسطُح مدجّجة بالمسلحين خشية أن أهرب أو أقاوم، علماً أنّني كنت أعزل إلا من بعض الإرادة والأمل والكرامة.

حين وصلت سيّارات المجموعة التي اعتقلتني إلى مدخل فرع فلسطين، أعلنوا عن ابتهاجهم بفتح زمامير السيارات وبإطلاق زخّات من الرصاص رشّاً ودراكاً.

أخذوا مني الساعة والزنار ورباطات الحذاء والسجائر والقداحة ومبلغاً صغيراً من المال، ثم أدخلوني إلى إحدى الغرف وبدؤوا بالصفع والركل واللكم والأسئلة عن بيت اجتماعات قيادة الحزب وأقرب موعد معها، وعن بيت المطبعة وأسماء المراسلين المركزيّين، وأسماء قيادات المناطق، وعن اجتماع اللجنة المركزيّة القادم.

نَمَّت أسئلتهم عن امتلاكهم معلومات كثيرة وعن دقّة في توجيهها أكثر ممّا كانت عليه في اعتقاليَّ الأوّل والثاني.

بقيتُ مُصِرّاً على ألَّا أقول أيّ شيء إلا بحضور رئيس الفرع، فجاؤوني بشخص على أنه هو رئيس الفرع، وكانت عيناي معصوبتين غير أن نبرة التمثيل في صوته، جعلتني أحسّ أنه ليس رئيس الفرع الحقيقيّ، فواصلت إصراري إلى أن جاء فعلاً رئيس الفرع، وكنت أعلم، بحسب معلومة مسبقة، أنه العميد مظهر فارس.

تبيَّن لاحقاً أن مَنْ مثّل دور رئيس الفرع هو الضابط عبدالمحسن هلال، وهو  من أسوأ ضباط الفرع إضافة إلى سوئه كشخص أعرفه منذ كنا طلاباً في إحدى ثانويات مدينة حمص.

وقد بدا لي أنّ العميد مظهر فارس حضر وفي يديه سيف الترهيب وذهب الترغيب.

أطال التحديق فيّ كما لو أنه يروزني، ثم راح يهزّ رأسه أو أفكاره داخل رأسه: 

– تعرف أن القانون يحكم على كل بعثيّ، تثبت عليه ازدواجية الانتماء الحزبي، بالإعدام.

 – وما مناسبة كلامك؟ أعني ما علاقتي به؟

– أنت بعثيٌّ أوَّلاً، ومن حزب العمل الشيوعي ثانياً.

– صحيح أني انتسبت إلى حزب البعث حين كنت طالباً في المرحلة الثانوية، ولكني قدّمتُ استقالتي منه العام 1975 عندما كنت في بودابست.

– ولكننا لم نقبل استقالتك، واسمك ما يزال مسجّلاً في قيودنا كرفيق.

– حتى لو لم يكن مسجَّلاً، فلا أحد يستطيع منعكم من تسجيله عندما تريدون، وفي أي حقل تريدون.

– على أية حال لسنا الآن في هذا الوارد، فنحن نريدك رفيقاً لنا وفي الموقع الذي تستحقّه. أيناسبك أن تكون رئيس تحرير جريدة الثورة مثلاً؟

– قبل الحديث في أي أمر، ينبغي لي القول أنني ما رفضت الكلام قبل أن تحضر إلا لكي أوفِّر عليكم وعلى نفسي عناء الخوض في مواضيع لا أعرفها ولا جدوى من إثارتها أو تعذيبي من أجلها. لا شكّ أنّك على علمٍ بأني استقلت من قيادة الحزب قبل ثلاثة أشهر. أما قبل ذلك فلا أنكر أني كنت أحد أعضاء المكتب السياسي في الحزب، وبالتالي إذا أردت أن تسألني عن أي أمر حزبي فاسأل عما كان قبل ثلاثة أشهر. 

– وكيف لنا أن نعرف باستقالتك؟

– لقد اعتقلتم قبلي بعض أعضاء القيادة، ولا شك في أنكم أنتزعتم كل ما لديهم من معلومات بشأن مكان الاجتماع الأخير للّجنة المركزية، وما دار فيه من خلافات جعلتني أستقيل من قيادة الحزب.

خابَتْ آمال أو توقّعات رئيس الفرع الذي يمكن أن يكون قد بناها على أساس أنّي طلبته شخصيّاً. فأمر عسكره بأن يسلخوا جلدي ويحطّموا أضراسي مع الحفاظ على أسناني.

لم أتأكّد من جدّية أوامره إلى أن بدأوا فعلاً بتكسير أضراسي.

فكّرتُ في أنّهم ربما ينوون تعذيبي إلى حد انهياري واستسلامي لما يريدون، وعندها قد يبثّون مقابلة معي على التلفزيون الرسميّ أمتدح فيها الطاغية وأدين حزبي وتاريخي، وفي هذه الحالة لا مشكلة مع الأضراس المحطَّمة، فالمهم هو أن تبدو أسناني لجمهور المشاهدين سليمة.

في المحصلة أخضعوني لمعظم أساليب التعذيب المُعْتَمدة، والتي يُمكنني إجمالها بالدولاب والشبح على السلّم والفسخ والصعق بالكهرباء والكرسيّ الألمانيّ.

 

داخل فرع فلسطين

 

“في اليوم السادس كان التحقيق أعمًى والتعذيب جنونيّاً، وحين لم يعد جسدي قابلاً لتحمُّل المزيد، نقلوني إلى قسم العناية المركّزة في مشفى حرستا العسكريّ”.

 

في الأيّام الثلاثة الأولى أبقوني في إحدى غرف التّحقيق القريبة من مكاتب الإدارة والمحقّقين، لتسهيل الحركة إلى خارج الفرع عند اللزوم. وقد أخرجوني مرّتين، الأولى لأدلَّهم على بيت سكنته سابقاً في منطقة الحجر الأسود المتاخمة لمخيم اليرموك، ولكن ذاكرتي لم تسعفني هناك في تذكّر مكان البيت بالضبط، والثانية لأدلّهم على البيت الذي عقدت فيه اللجنة المركزية اجتماعها الأخير في حمص، وكنت أنا والرفيق عباس محمود عباس معنيّين باستئجار البيت، وقد أخليناه بعد أيام قليلة من انتهاء الاجتماع، فتمكنت من كسب بضع ساعات في الهواء الطلق استغرقها الطريق بين دمشق وحمص.

 بعدها أنزلوني إلى القبو حيث الزنازين، وصاروا يُحقِّقون معي مرة واحدة في اليوم، وأحياناً مرتين.

الزنازين في فرع فلسطين مفصَّلة على قياس أشخاص لا يتجاوز طولهم المائة وثمانين سنتيمتراً، وعرضها تسعون سنتيمتراً تقريباً، وارتفاعها حوالى المترين، وفي سقفها فتحة تتدلى فوقها لمبة ذات ضوء وقح ليلاً نهاراً ولا سبيل إلى إطفائها. في الزنزانة قطعة من قماش متين عازل للرطوبة، وبطانيتان أو ثلاث عتيقة مهلهلة وعليها ما تيسر من دماء من سبقوك ومن قَيْح جروحهم، إضافة إلى قنينة بلاستيكية سعة ليتر واحد للشرب، ومثلها للتبول.

في اليوم السادس كان التحقيق أعمًى والتعذيب جنونيّاً، وحين لم يعد جسدي قابلاً لتحمُّل المزيد، نقلوني إلى قسم العناية المركّزة في مشفى حرستا العسكريّ.

بعد أشهرٍ صارت مواعيد جولات التّعذيب متباعدة، أو عند اكتشاف إحدى أكاذيبي من خلال مقاطعة ما يقوله معتقلون جدد مع أقوالي السابقة، بل صاروا يجبرونني على مشاهدة جولات تعذيب رفاقي كنوع من التشفّي وإضعاف معنوياتي، لأن تعذيبي لم يعد يُعوَّل عليه ولم يحقّق المُراد منه.

 

في البداية كان يهمهم كثيراً أن يعرفوا من هو الأمين العام للحزب، وإذا ما كان لدى الحزب جناح عسكري. ولو أنّهم قرأوا وثائقنا الحزبية من نظام داخلي وبرنامج سياسيّ وخطّ نظريّ، وهي موجودة عندهم منذ سنوات، لجنَّبوا أنفسهم وجنبوني الكثير من الأسئلة التي لا مبرّر لها. ولكن يبدو أن عندهم فائضاً من المحقّقين والجلّادين والوقت، ولهذا لم يتركوا جانباً في حياتي الحزبيّة وحتّى الشخصيّة إلا وسألوني عنه.

 

حين انتهت التحقيقات بشأن المفاصل الحزبية المهمّة، انتقلوا إلى ما هو أقل خطورة، من قبيل علاقتي بأدباء كممدوح عدوان، جميل حتمل، شوقي بغدادي، عبدالقادر الحصني وعبدالرحمن منيف، وركزوا كثيراً على غالب هلسا، وكنت أخشى أن يفاجئوني بمعلومة تؤكد أني كنت أقيم في بيته في أوقات الشِّدّة.

 

في سجن تدمر

 

“بالنسبة إليّ كان الشّعر هو طائر الحريّة الأجمَل، فأنا لا شيء يشدّ القوس بي إلى النهاية مثلما يفعل الشعر”

 

الوقتُ من سُلالة الزمن والزمان والمكان، وهو في السّجن أرحب مما هو عليه في الخارج، إلا أنه لَزِجٌ وزئبقيّ، ثقيل ورجراج، دنِس وعاطل عن العمل، ورحابته جوفاء ومتصحِّرة في الكثير من الأحيان. 

بمقاربة أنأى وأعمق، يمكننا القول إن السجن زمنٌ أكثر منه مكاناً، ولهذا فإن فداحته المعنوية نفسياً وروحياً أشدّ من فداحة جدرانه وجنازيره وأقفاله. 

أن تخسر مالاً أو رهاناً أو عملاً هو أقلُّ وطأةً بكثير من أن تخسر عمراً، أي زمناً متعدِّد القابليّات والاحتمالات. 

السجن في البلدان الاستبداديّة والمتخلِّفة، يشبه حجز تذكرة ذهاب فقط، إذ إن تذاكر الإياب تكون قد نفدت مسبقاً، وربما هي لم تُطبَع أساساً. 

تحدَّثْتُ مراراً عن علاقتي بالزمن داخل السجن، ومع ذلك لم أصل إلى تحديد إيقاعه وكنهه بالضبط. ذلك أن هناك ما يمكن وصفه بلعنة الزمن، أو بالزمن الملعون، المخاتل والمتربِّص، أو الزمن الفخّ، أو الزمن الشبكة ذات الكلاليب والخطاطيف. 

الإحساس بطول الزمن أو قصره، مرتبط بحجم ما يطرأ، وبحجم ما ينجز المرء فيه، ولهذا يبدو الزمن في السجن مديداً وخفيفاً أو فارغاً من المعنى، والسجن نفسه في أحد معانيه العميقة إنما هو محاولة لإلغاء معنى السّجين، وربما لإلغاء المعنى بالمطلّق، هذا إلا إذا انتبه السّجين لذلك وسعى إلى مواجهته من خلال خلق معنى ما عبر الكتابة أو القراءة أو الموسيقى والغناء أو الرسم، أو النحت ولو بأدوات بسيطة كالإبرة والمسمار وقصاصة الأظافر.

أما بالنسبة إليّ فقد كان الشّعر هو طائر الحريّة الأجمَل، فأنا لا شيء يشدّ القوس بي إلى النهاية مثلما يفعل الشعر.

في الواقع لم يكن ذلك متاحاً كثيراً ضمن شروط سجن تدمر، حيث الانقطاع عن العالم الخارجي وعدم توفر مقومات الحياة إلا في حدودها الدنيا، ومع ذلك ورغم منع الأوراق والأقلام، فقد استطعت كتابة الشعر على الذاكرة مباشرة كما فعل أجدادنا القدماء، وحين تعدّدت القصائد وخفت أن لا تسعفني الأيام أو ذاكرتي في الاحتفاظ بها، فقد ساعدني بعض الرفاق ممن يحبّون الشعر على تقاسم القصائد وحفظها كنسخة ثانية لما تحفظه ذاكرتي.

في تدمر أضربنا عن الطعام أحدَ عشرَ يوماً، فحسّنوا شروط حياتنا. أوقفوا الضرب والإهانات والشتائم، وسمحوا لنا باستعارة كتب الأدب والتاريخ من مكتبة السّجن، ووافقوا لنا على شراء مرآة صغيرة وقاموس إنكليزي عربي، وطبّاخ يعمل على الكيروسين، فصرنا نسخّن الطعام ونعيد تحضيره مع ما يتوفر من البصل والثوم.

لم تمضِ بضعة أشهر حتّى عاد الضرب والإهانات، فدخلنا إضراباً جديداً عن الطعام استمرّ ستّة عشر يوماً. كان ذلك في فترة غزو صدام حسين للكويت، ولهذا كانت ردود أفعالهم متوتِّرة وحادّة، ومع ذلك أرسلت السلطات عقيداً من دمشق ليقنعنا بوقف الإضراب، وحين لم نستجب نقلوا خمسة منّا إلى المنفردات، ودفعوا في وجهنا تهمة استغلالنا للحرب الناجمة عن احتلال الكويت، فآثرنا التراجع خطوة إلى الخلف ووقف الإضراب مؤقتاً.

في السنة الأولى على وجودنا في تدمر لم نكن نلحظ الفارق في التعذيب بيننا وبين المعتقلين الآخرين من حزب الإخوان المسلمين وما يسمونه “بعث العراق”، لكن شيئاً فشيئاً بدأت الفوارق تتّضح. نقلوا أحدنا في حالة إسعاف إلى المستشفى، وذلك ما لا يمكن أن يحدث لمعتقل من الإخوان أو بعث العراق، ثم صار فارق التعامل كبيراً بعد الإضراب عن الطعام، وانتهى عندنا هاجس التّصفية الذي عشناه في السنة الأولى، في حين أن التّصفية كانت جارية بالنسبة للإخوان وبعث العراق.  

لا ندري ما هي الأسباب أو المعايير التي تجعل إدارة السجن تقوم بتصفية أحد السجناء كل بضعة أيام في  خلال فترة التنفّس في الباحات.

طرائق التصفية في منتهى التوحش، كأن يضربوا أحداً ببلوكة على رأسه، أو بقضيب حديد أو مطرقة على عموده الفقري، أو بتمديد السجين ثم القفز فوق رأسه ورقبته. لا أتحدث عمّا سمعناه، بل عما رأيناه حين كنا في المهجع 18 جديد والمهجع 24 في الباحة الرابعة.

في سجن تدمر ستّ باحات، وحول كلّ باحة عدد من المهاجع. كنا في الباحة الرابعة نراقب، من ثقوب الباب، خروج السجناء من المهاجع إلى باحة التنفس ونَعدّهم. الأعداد في المهاجع متفاوتة، عموماً ما بين سبعين وتسعين سجيناً في المهجع الواحد. لاحقاً قال لي أخي الذي أمضى 11 عاماً في سجن تدمر، أن عددهم في المهجع كان يصل إلى مائتين، وكان ذلك رحمة في الشتاء لأن الأنفاس تجعل المهجع دافئاً، ولكنه في الصيف يتحول إلى ما يشبه تصوراتهم عن جهنم.

 

في سجن صيدنايا

“الموسيقى ممنوعة في السجن، ولكن أحرار النفوس لا يتوبون عن الحرّيّة ولا يستسلمون لوحشة السجن”

في صيدنايا اختلفت الظروف، أعني صارت أقل وطأة وأقلّ تحظيراً ورقابة، كما صارت زيارات الأهل ممكنة، فاتسع الاهتمام بالقراءة والكتابة والمسرح والموسيقى والرسم والنّحت ودورات تعلُّم اللغات كالإنكليزيّة والفرنسيّة والروسيّة. 

لو سألنا عن أهمّ المترجمين السوريّين الآن، لَلَمَسْنا حقيقة أن كثيرين منهم كانوا سجناء.

بالطبع الموسيقى ممنوعة في السجن، ولكن أحرار النفوس لا يتوبون عن الحرّيّة ولا يستسلمون لوحشة السجن. ومثلما كان بيننا أطباء ومهنيّون ولغويّون وكيميائيّون ومهندسون، كان بيننا أيضاً فنانون تشكيليّون وموسيقيّون.

هناك من حوَّل طنجرة إلى قصعة عود، وبعضاً من أخشاب صناديق الخضار إلى زند للعود، ثم فكَّك خيطان الجرابات النايلونية وأعاد جدلها بسماكات متباينة لتغدو أوتاراً. لاحقاً حاولوا صناعة قصعة العود من الخبز بعد عجنه مع الورق ونثرات الخشب ودهنه بالمربى وتنشيفه، وحين صارت الإدارة تتساهل أو تغض الطرف عن بقاء بعض صناديق الخضار عندنا، بدأت صناعة الأعواد الخشبية المستطيلة، وانتهت الأمور إلى حد تصنيع أعواد شبه نظاميّة، وجيتار وكمنجة أيضاً.

لم تكن رحلة الموسيقى بدون ضرائب مريعة أحياناً، فحين يكتشفون وجود عود أو أحداً يعزف، كانت الإدارة تحطّم العود وتنزل صاحبه إلى الزنازين في الطابق الثالث تحت الأرض حيث العتمة والرطوبة والجراذين. أخي إبراهيم مثلاً أمضى هناك شهراً لأنهم ضبطوه وهو يعزف.

في نهاية العام 1988 أو بداية العام 1989 أعلن أسعد شلاش، خريج المعهد الموسيقي في حلب، عن دورة لتعلُّم العزف على العود، وقد سجّل الغالبية أسماءهم، ولكن مع الزمن صار هناك من يكتفى بدروس الموسيقى النظرية المتعلّقة بالمقامات والسلالم الموسيقيّة والإيقاعات وقراءة النوطة.

وكان سمير عبدو (أبو الندى) هو المرجع الأعلى والأشمل في الأداء والغناء. وفي جناح آخر من السجن كان تركي مقداد، محترِف العزف على الأَكورديون والأورغ، وخرّيج قسم الفلسفة، ينظِّم دورات موسيقى نظريّة ودورات صولفاج. كان تركي كفيفاً ولكنه ذو بصيرة نافذة في كل ما يتعلق بشؤون الثقافة والسياسة والاجتماع والموسيقى والغناء.

باختصار صارت الموسيقى ثقافة عامة عند الكثير من السجناء حتّى لو لم يشتركوا في الدورات النظريّة أو التدريبيّة. الموسيقى حقّاً وسيلة ممتازة لإعادة “دَوْزَنَة” النفس والروح.

يوميات السجون

تتباين تفاصيل الحياة اليوميّة داخل كلّ سجن، وبين السّجناء على تعدّد انتماءاتهم الحزبيّة والسياسيّة. 

بالنسبة إلى مُعتقلي حزب العمل الشيوعيّ، وأنا واحد منهم، كانت القراءة تأخذ حيِّزاً كبيراً من وقتهم واهتمامهم. كنّا نقتطع نسبة مما يردنا من نقود في الزيارات لنشتري بها كتباً. في السنوات الأولى في صيدنايا ضمَّت مكتبتنا الخاصة حوالى ألف عنوان، أغلبها مشتراة من جهات تحظى بموافقة الرقابة مسبقاً كمنشورات وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب ومعرض “مكتبة الأسد” للكتاب، وأحياناً استطاع بعض الأهالي أنْ يهرِّبوا لنا من لبنان كتباً ممنوعة في سوريا.

وكان للشطرنج حظّ وافر من الاهتمام، وكذلك طاولة الزهر وألعاب ورق الشدّة.

في صيدنايا أوقات النوم والاستيقاظ حرّة، ولكن الإضاءة العامة تنتهي في العاشرة ليلاً، فمن أراد القراءة بعد ذلك فإنه يستطيع صنع “كلوب” من الكرتون على أن تكون فتحة الإضاءة بحجم الليرة السورية المعدنية، أي بما يكفي لإضاءة الصفحة التي يقرؤها، من دون أنْ يزعج جيرانه. 

في سجن صيدنايا لكل سجين عازل وفرشة فرديّة وعدد وافر من البطانيات العسكريّة. كما يُسمَح للأهالي بأن يجلبوا معهم في الزيارات بطانيّات وشراشف.

الراديوهات الصغيرة مسموحة، وكان في إمكاننا تمديد أسلاك وأنتينات تساعد على تقوية البثّ ووصول العديد من المحطات كالبي بي سي (BBC) ومونتي كارلو (Monte Carlo) وغيرهما، ولكن بين حين وآخر كانت الإدارة تعاقبنا بسحب الراديوهات لفترة من الزمن.

في سجن صيدنايا، وفي أواخر ثمانينات وفي تسعينيات القرن الماضي كانت المهاجع والكوريدورات أمامها تبقى مفتوحة عادة من التفقّد الصباحيّ حتى التفقّد المسائيّ، ويحدث كثيراً أن يغلقوها كنوع من العقاب أو لضرورات أمنية كحضور شخصيات مهمّة أو لجان أمنيّة أو حالات نقل أو إفراج واسعة نسبيّاً.

كما يوجد أيضاً باحة تنفس، ولكن أكثر السجناء لا يهتمون بها لأنهم يتحركون براحتهم في الكوريدورات، ويمكن أن يلعبوا فيها حتى الرياضات الفردية الخفيفة.

يختلف الأمر كثيراً عن باحات التنفس في سجن تدمر، حيث تتجلى أساليب البطش والتنكيل والتوحش والقتل على أشدِّها. في الحقيقة هي ليست باحات تنفس بل باحات قطع أنفاس.

في صيدنايا لم نكن نعتمد كثيراً على طعام السجن، إذ كانت زيارات الأهالي الشهرية تسد جانباً كبيراً من الحاجة، وكان بالإمكان شراء الخضار وبعض مستلزمات الطبخ.

في سجن تدمر يصل الطعام إلى المهاجع بعد تجريده من اللحومات وسرقة جزء كبير من البيض والزيتون والمربّى والأجبان وغير ذلك مما هو قابل للبيع أو مغرٍ للاستئثار به للإدارة والعساكر، وبالتالي غالباً ما يكون البرغل أو الرز مترافقاً مع مرق فيه القليل من الفاصولياء أو البطاطا. 

الأمر الوحيد الذي لا تتساهل فيه الإدارة هو حصة السجين اليومية من الخبز. ولهذا تكثر خلافات السجناء ومشاحناتهم من أجل الطعام، ولا سيما عندما تكون حصة السجين سُدس بيضة مثلاً أو حبتين من الزيتون أو تفاحة لتسعة أشخاص.

حقل الغرائب

السجون السياسيّة في عهد نظام الأسد يمكن تصنيفها في حقل الغرائب والأساطير والعبث واللامعقول. في الذهاب إلى الحمامات في سجن تدمر، يخرج السجناء عراة من الثياب ولكنهم يتغطون ببطانيات عسكرية والسياط تلاحقهم وهم يتلوون وينتفضون تحتها حتى لتظن أن ما تراه خفافيش أسطورية تترنح على غير هدى. مياه الحمامات باردة تماماً أو حارة جداً. ليس الأمر لنقص في الخبرة أو التكنولوجيا بل هو نوع من العقاب. في طريق العودة إلى المهاجع يتسلّى العساكر بالسجناء كل حسب مزاجه. مرة كان أحد العساكر يحمل حبلاً طويلاً وفي طرفه أنشوطة. كان يرمي الأنشوطة باتجاه السجناء إلى أن تعلق برأس أو رقبة أحدهم، عندها يوقعه أرضاً ويجرّه بالحبل ذي الأنشوطة. شيء أشبه باصطياد الخيول البرية في تكساس كما تعرضها الأفلام الهوليوديّة.

شهدنا في تدمر أيضاً إجبار بعض السجناء على ابتلاع فأر ميت زلطاً بدون استخدام الأسنان والأضراس.

وشهدنا مراراً عملية “التطويح”، إذ يقوم عسكريان بمسك السجين من يديه ورجليه ومرجحته يميناً ويساراً عدة مرات ثم يطوّحانه في الهواء بأقصى ما يستطيعان. 

حتى في صيدنايا الذي هو أقل وطأة يمكن أن ترصد ما هو غير قابل للتصديق، كأن تلتقي بسجين مضى على اعتقاله واحد وعشرون عاماً بالرغم من أنّه محكوم من قِبَل محكمة عسكرية استثائية لمدة سنتين فقط، أو كأن تلتقي بسجناء اعتُقِلوا وهم دون السنّ القانونيّة وبقيت ملامحهم طفولية رغم مرور سنوات طويلة على اعتقالهم، أو كأن تلتقي بسجين جاءته أول زيارة من أهله بعد مرور اثني عشر عاماً على اعتقاله، وحين ينزل إلى غرفة الزيارات ويمسح بعينيه الزوّار وراء الشبك الحديدي لا يتعرف على أهله، فيمسك الشرطي بيده ويأخذه قبالة أهله، وبعد الكثير من التحديق والتدقيق والتذكُّر، تعرَّف على أبيه الذي صار هرماً، وحين راحت المرأة التي بجانب أبيه تبكي أخذ يطمئنها “يمّه أنا بخير ليش تبكين.. وجعانة يُمَّة.. مرضانة؟”، وكان بكاء المرأة يزداد كلما قال لها “يُمّة”، ولكنها استطاعت في النهاية أن تتماسك لتقول له إنها أخته وليست أمه التي أخذها الموت بعد أن أخذه الغياب. 

الكوابيس عادة تأتي في خلال النوم، ولكنها في سجن تدمر وفي فروع التّحقيق تأتي في النوم واليقظة.

مع ذلك هناك من نجا من جحيم سجون الأسد وأنا أحد الناجين. 

كان لي وضع خاصّ على صعيد اهتمام منظمات دولية حقوقية بشؤوني كسجين سياسيّ وكشاعر أيضاً، وقد قامت حملة دوليّة واسعة لإطلاق سراحي، بدأها رفاقي في فرنسا ثم اتسعت لتشمل مؤسّسات أدبيّة وثقافيّة عديدة كـ”نادي القلم” و”صحافيّون بلا حدود”، إضافة إلى عرائض موقَّعة من كثير من أدباء العالم ولا سيما في فرنسا، الأمر الذي اضطر معه الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى مطالبة الأسد الأب بإطلاق سراحي، ولكن الأسد الأب  راح يُماطِل، ثم مات، وبالتالي لم يطلق سراحي إلا في 16 تشرين الثاني العام 2000، أي بعد أن ورث الأسد الابن العرش. 

 

عن الكاتب

فرج بيرقدار هو كاتب وشاعر وناشط سياسيّ، اعتُقِل أربع مرّات في سجون سوريا الأسد، تعرّض للتعذيب، من سجن فرع فلسطين إلى  سجن تدمر إلى سجن صيدنايا. بقي سجيناً في المرّة الأخيرة مدّة 13 سنة تقريباً، من العام 1987 إلى العام 2000.