“في المعتقلات.. كانت الأحلام نادرة، هناك فقط الكوابيس”

 

المحور الأول

تعرّضت للسّجن عدّة مرات ولمُدد متفاوتة. كانت المرة الأولى العام 1994 عند عودتي من الجمهوريّة التونسيّة، حيث كنت أعمل في مركز التَّخطيط الفلسطينيّ التابع لمنظَّمة التحرير الفلسطينيّة. أوقِفتُ في مطار دمشق الدوليّ على يد مفرزة من المخابرات الجويّة، التي تراقب حركة المسافرين ذهاباً وإياباً، ونُقِلت إلى فرع التَّحقيق في مطار المزّة العسكريّ ومنه إلى فرع فلسطين حيث قضيْتُ ستّة أشهر.

كانت البلاد تشهد تشدُّداً أمنيّا لمنع أية مظاهِر مُعارِضة بعد الهزّة التي أحدثها موت باسل، النجل الأكبر لرئيس النّظام (السابق) حافظ الأسد، في حادث سيارة، ومِن ثَمّ انهيار عمليّة التحضير التي كانت جارية لتوريثه الحُكم.

المرة الثانية كانت في شهر حزيران/يونيو العام 2005 عند فرع التّحقيق في الأمن السياسيّ على خلفية قراءتي، بتكليف من مجلس إدارة مُنتدى جمال الأتاسي للحوار الوطنيّ الديمقراطيّ، رسالة وجهها المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، علي صدر الدين البيانوني، إلى جلسة من جلسات المنتدى خُصِّصت لمناقشة قضية الإصلاح في سوريا. وهذه المرة أيضاً قضيت ستة أشهر في الجناح الثاني المُخصص للسياسييّن في سجن دمشق المركزي- عدرا.

كانت البلاد تحت وقع صدمة انكشاف كذب وعود الوريث بشار الأسد الإصلاحيّة وعودة الاعتقالات ومحاكمة المعارضين أمام محكمة أمن الدّولة العليا السيِّئة الصّيت. كان الوضع دقيقاً وحسّاساً مع تفاعل نشاط ربيع دمشق وفَوْرة المنتديات وبروز “لجان إحياء المجتمع المدنيّ” كقوّة دافعة للضغط على النّظام من أجل قبول مبدأ التغيير، وجرأة شباب المعارضة وتحدّيهم النّظام عبر التجمُّع أمام محكمة أمن الدّولة العليا للتضامن مع المعتقلين عند إحضارهم إلى المحكمة، وتحقيقات ديتليف ميليس حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريريّ والتحضير للمؤتمر الخامس لحزب البعث الحاكم وسعي السلطة للإيحاء بوجود توجُّه سياسيّ جديد سيقرّه المؤتمر وبإشراك معارضين في الحوار حول المشكلات القائمة وسبل الإصلاح. شاركت إذاعة لندن العربيّة في التّرويج لوعود الإصلاح عبر عقد جلسات حوار مفتوحة حول المشكلات والحلول في قاعة في فندق الشّام، وكنت حضرت إحداها قبل اعتقالي. في الليلة الأولى سمعت أصوات أشخاص في الغرف المجاورة يتحدَّثون فيما بينهم، وعلمت لاحقاً بوجود معتقلين من نشطاء ربيع دمشق في غرفٍ في نفس الممرّ، ومنهم المحامي حبيب عيسى والطبيب وليد البني والمهندس فواز تللو، وأُحضِر بعد فترة الأستاذ رياض درار. وقد وُضع أربعة من السلفيّين في الغرفة المقابلة لغرفتي، وقد سألني أحدهم، يبدو أنه من يتزعّمهم، بعد أن علموا بوجودي من خلال حديثي إلى السجّان، سألني عمّا إذا كنت من جماعة الإخوان المسلمين فأجبتهم بالنَّفي وأضفْتُ أنّني من المنادين بالديموقراطية، فقطع الحديث قائلا نتكلّم لاحقاً، ولم يأت هذا الـ”لاحقاً”.

في صباح اليوم التالي سمعت من الغرفة المجاورة، حيث وليد البني، نشرة إذاعة مونت كارلو ونشرة إذاعة لندن من مذياع لديه. وقد علمت منهم لاحقاً أنّهم سمحوا لكلٍّ منهم بإدخال مذياع بعد مرور سنتين على سجنهم. بعد حوالى أسبوع سمعت في مكبر الصوت في السجن أسم محمد العبدالله. توتّرت وحاولت الوصول إلى فتحة التهوئة العالية لأرى إن كان المنادى عليه هو ابني محمد، لكنني فشلت. بعد أكثر من أسبوعَيْن سمعت في المذياع خبر الإفراج عن محمد العبدالله ابن الكاتب المعتقل علي العبدالله. وقال لي البني لاحقاً إنّه سبق وسمع خبر اعتقال محمد في مذياعه وإنّه لم يُخبرِني لكي لا أتأثر.

وقد نقلت إذاعة لندن، في تغطيتها نتائج مؤتمر الحزب الحاكم، نبأ إقالة الحرس القديم من الحزب وذكرت أسماء كلٍّ من نائب الرئيس عبد الحليم خدّام ووزير الدفاع مصطفى طلاس. كان صوت المذياع عالياً فسمع بعض السّجناء الجنائيّين الخبر فيما كانوا جالسين في الباحة تحت غرفة وليد، فعلّق أحدهم قائلاً: “يستاهلوا، انشالله يجيبوهن لهون”.

المرة الثالثة كانت في شهر نيسان/أبريل العام 2006، عند مخابرات أمن الدّولة. كنا ضمن تجمع أمام محكمة أمن الدّولة العليا للتضامن مع معتقلين من العتيبة ومن قطنا حيث كنت أسكن. كان أبني محمد برفقتي، وشاهد شرطيّاً يدفع سيدة من أهالي المُعْتَقلين تَحْمِل رَضِيعاً، فأنّبه ولَعَن بصوت مرتفع حالة الطوارئ التي تمنحهم فرصة إهانة المواطنين. في مساء اليوم نفسه اعتُقِلْنا أنا ومحمد من منزلنا في قطنا، وقضينا ستة أشهر واثني عشر يوماً بين سجنَيْ صيدنايا العسكريّ ودمشق المركزيّ.

كانت البلاد تحت تأثير مشاعر متناقضة بين أمل انتهاء النّظام وبين الخوف من الفوضى، مشاعر ترتّبَت عن اغتيال رفيق الحريريّ واتِّهام المحقِّق الدّوليّ ديتليف ميليس النّظام باغتياله.

المرّة الرابعة كانت في شهر كانون الأول/ديسمبر العام 2007 عند مخابرات أمن الدّولة أيضاً، وذلك على خلفية مشاركتي في مؤتمر المجلس الوطنيّ لإعلان دمشق للتغيير الوطنيّ الديمقراطيّ وانتخابي عضوا في أمانته العامة، حيث حُكم عليّ، مع أحدَ عشرَ آخرين من قيادة الإعلان، بالسجن عامين ونصف العام قضيتها في سجن دمشق المركزي- عدرا.

كانت البلاد تحت ضغط عودة العصا الغليظة والتوسّع في الاعتقالات مع الحرص على إبراز أنّ معظم المعتقلين هم سلفيّون خطِرون، وذلك بقصد توجيه رسالة إلى الغرب مفادُها أن النّظام مهدَّد من جماعات سلفيّة متشدِّدة وذلك لتخفيف الضغوط التي اشتدَّت عليه بعد نشر تحقيقات ميليس.

في المرّة الأولى نُقِلتُ من المطار إلى فرع التّحقيق في مطار المزّة العسكريّ، وهناك وُضِعت في قاعة تحت الأرض مع عددٍ من المطلوبين للتّحقيق، قاعة ليس فيها إلا مقاعد خشبية، فَنِمت ليلتي الأولى على المقعد، وبقيت إلى مساء اليوم التالي جالسا فيها من دون طعام أو ماء، بعدها نقلت إلى غرفة للتحقيق حيث سألني محقِّق مبتدئ عن حياتي وعملي في منظمة التّحرير وأعادوني إلى القاعة، ثُمَّ نُقِلت مساء إلى فرع تابع للمخابرات العسكريّة، الفرع 294. تسلّمني الضابط المناوب، وعندما قرأ كتاب التّحويل قال عنّي أنني “إرهابيّ”. نُقِلت بعد ساعات إلى الفرع 215، المشهور بفرع الدوريات، حيث بتّ ليلتي على أرضٍ مغطاة ببطانيات عسكريّة، وفي الصّباح نُقِلت إلى الفرع 235، المشهور بفرع فلسطين. وُضِعت في غرفةٍ فارغة بقيت فيها واقفا لساعات من دون أن يكلمني أحد، بعدها أنزلوني إلى قبو ووضعوني في غرفة رقمها 8.

كانت المرّة الأولى التي أدخل فيها السجن. كلّ ما كنت أعرفه عن سجون المخابرات والتّعذيب قبلها مصدره الروايات السياسية، الأشجار واغتيال مرزوق وشرق المتوسط الآن هنا، لعبدالرحمن منيف، لذا أحسسْتُ بتجمُّد مشاعري إلى أنْ دخلت الغرفة رقم 8 وتعرّفت على بعض المعتقلين، وتبادلت الأحاديث مع الفلسطينيّين والكُرد. كانت لي معرفة مُسبَقَة، اجتماعيّة وسياسيّة عن المجتمعَيْن. فقد سبق لي أنْ عِشْتُ من العام 1955 إلى العام 1970 في مدينة القامشلي- محافظة الحسكة، وتعلمت التحدُّث باللغة الكرديّة، كما قضيت سبعة عشر عاماً في الوَسِط الفلسطينيّ.

بدأ التّحقيق معي بعد خمسة وعشرين يوماً مِنْ وصولي إلى فرع فلسطين. لم أتعرَّض للتعذيب، فقد قال لي المحقّق في الجلسة الأولى “لولا أنّ سيادة الرئيس حافظ الأسد أمر بالتوقّف عن التّعذيب لكنت كسّرت عظامك”. قول فيه اعتراف بممارسة التّعذيب، من جهة، وغير صحيح، من جهة أخرى، لأن التّعذيب كان ما يزال يُمارس على مُعْتَقَلين غيري. ثمّ إنّي ضُرِبت في المرّتين الثالثة والرابعة، لكماتٍ على الوجه والبطن، لأنّ أجوبتي لم تُعجِب المحقق في الفرع 265 التابع لمخابرات أمن الدّولة، فسلّط عليّ عنصراً راح يضربني وتسبّب لي في المرّة الرابعة بثقب طبلة أذني اليُمنى.

نُقِلت إلى سجن صيدنايا العسكريّ، وفي مساء اليوم الأول هناك دعاني مدير السجن العقيد لؤي يوسف للتعرف عليّ، ضيفني كأسا من الشاي، وسألني عن مبرّر المعارضة ونحن عندنا رئيسٌ شاب. قلت له “خلافنا ليس على شبابه بل على السياسات التي يعتمدها”.

في مرات السجن التالية كنت مرتاحاً نسبيّاً لأنني بتُّ أدخل عالماً سبق ودخلتُه وعرفتُ دواخله.

علي العبدالله في المحكمة العسكرية بدمشق عام 2006 (أرشيف الكاتب)

 

المحور الثاني

نعم تعرّض السّجناء للتعذيب وبأكثر من طريقة. فقد شاهدت في خلال فترات اعتقالي مَن تعذّب، ومَنْ جُلِد بكابلات الكهرباء على ظهره وأطرافه، ومن ضُرب بعصا على قدميه بعد وضعه في الدولاب، ومَنْ شُبِّح لِساعات (في وضعيّة الشبح توضع كلبشات في رسغ المعتقل ويعلق بها بحيث يرتفع عن الأرض مع ترك أطراف قدمَيْه تلامسها) وَمَنْ وُضِع على الكرسيّ الألمانيّ، (كرسيّ يجلس عليه المعتقل ويطوى فيُصبح الألم في العمود الفقري فوق طاقة البشر). وما حدث مع معتقلٍ كرديّ، وكان أردنيّاً، هو أنّه كان يذهب إلى التّحقيق على قدميه ويعود زاحفاً، إذ تتورّم قدماه مِنْ كثرة الضرب على باطنهما ويفقد القدرة على التحكّم بهما. كما أخبرني شابّ كرديّ أنّهم أدخلوا عصاً في مؤخّرته. هذا عدا عن سماعنا أصوات صراخ معتقلين آخرين من غرف أخرى يتعرضون فيها للتّعذيب. كان في الممرّ غرفة لحبس النّساء، وكنا نرى من ثقب في الباب الحديديّ سجّاني النوبة الليليّة يخرجون شابةً من الغرفة ويبدأون بتقبيلها ومداعبتها من صدرها وجهازها التناسليّ وعندما يبتعدون عن مرآنا لا نعود نعرف إلى مدى يتوصّلون في اعتدائهم عليها.

كلُّ محقّق يرافقه عناصر مزوَّدون بكابلات كهرباء أو عصي أو كلبشات أو دولاب أو كرسي ألماني، لاستعمالها عند الطلب ووفق تقديرات المحقّق.

في المرّة الثالثة، وفي سجن أمن الدّولة أُنزِلت إلى قبوٍ، وبعد تفتيش ثيابي بعصبيّة، وُضعت في زنزانة عرضها لا يتجاوز الخمسين سنتيمتراً وطولها حوالى مائة وثمانين سنتيمتراً. وبعد ساعات نقلت إلى زنزانة في قبو آخر أعرض وأوسع. بعدها بساعات أحضر أحد عناصر الأمن ورقةً مكتوبة بخط اليد فحواها “إنّني أوافق على التعاون مع جهاز المخابرات”. رفضْتُ توقيعَها، فسألني العنصر: “ألا تريد خدمة وطنك. فقلت له بلى ولكن ليس بهذه الطريقة”.

في اليوم التالي رُحِّلت إلى سجن صيدنايا العسكريّ وأنا مطمَّش العينَْن. تسلّمني شرطي عسكري من الدوريّة، لا أعرف إن كان ذا رتبة، وسألني لماذا اعتُقلت فقلت له أنا من دعاة الديموقراطية. فعلّق قائلاً: “الدم قراطيّة”.

أنزلوني وأنا ما زلت مطمّش العينيين إلى قبو على عمق طبقتين تحت الأرض وأدخلوني زنزانةً. عندها نزع العسكريّ الطمّاشة وقال لي “أيّ ضجّة أو صوت وستتعرّض للضرب”. وأغلق باب الزنزانة. زنزانة عرضها ثمانون سنتيمتراً وطولها مائة وستين سنتيمتراً وفي زاويتها كرسي مرحاض. ليس فيها إنارة، وفي الجزء العلوي من الباب الحديدي فتحة صغيرة يدخل منها ضوء خفيف آتٍ من إنارة الممرّ. الطعام يُقَدَّم من أسفل الباب بعلب بلاستيك. بقيت في هذه الزنزانة ثمانية عشر يوماً ثمّ نقلت إلى غرفة واسعة فيها مطبخ وحمام ومرحاض مستقلّ، بابها كبير على عرض الغرفة. وقالوا لي “عند فتح الباب تقف ووجهك نحو الجدار”، صيغة من صيغ تحطيم الكرامة عبر إفهامك أنك لست أهلا للنظر إلى القادم مهما كانت رتبته. بعدها جاء شرطيّ عسكريّ برتبة عريف، يبدو من سنّه أنه يقضي الخدمة الإلزامية، نهرني وطلب مني تنظيف الغرفة وجدران الحمام والمطبخ وإلا “سيُدَوْلِبني”، أي يضعني بالدولاب ويضربني.

عُرضت بعد 25 يوماً على قاضي التحقيق في محكمة أمن الدّولة العليا، القاضي الياس نجمة. كان لطيفاً، وبعد انتهاء التحقيق قال لي سأعتبرها جنحة. أي حكمها قصير قد لا يتجاوز ستة أشهر، ثم أبلغني أن أبني محمد معي في نفس الدعوى والسجن وهو هنا للتّحقيق. بعد أن أنهى التحقيق مع محمد سمح لنا بالتحدّث مع بعضنا. وقد انفجر محمد باكياً لأنّ القاضي قال له إنّه هو السبب في اعتقالي فهدّأته. ثم قال القاضي بعد التحقيق تستطيع أن تطلب من مدير السجن وضعكما معاً. وفعلا عندما عدنا إلى السّجن حصلت على مقابلة مع مدير السّجن وطلبت منه ذلك فوافق ونقل محمداً إلى غرفتي.

بعد 55 يوما طلب منا تجهيز أنفسنا للخروج، وعندما أخذونا إلى غرفة الأمانات لتسلم حاجياتنا أخطأ العسكريّ فأعطى محمداً أغراض أبني عمر الذي كان اعتقل قبلنا بأيام على يد المخابرات الجوية على خلفية مشاركته في تشكيل تَجمُّع طلّابي تحت اسم شباب من أجل سورية، “شمس”، وقد حُكِم عليه بالسّجن خمس سنوات قضاها في سجن صيدنايا حيث حضر العام 2008 حركة الاستعصاء (العصيان) التي قُتِل فيها العشرات. عندها عرفنا أنّه في هذا السجن، حيث لم تقبل محكمة أمن الدّولة العليا إطلاعنا على مكان سجنه قبل صدور الحكم. وهذا ساعدني على فهم حديث أحد المساعدين من الشّرطة العسكرية معي بعد يومين من وصولي إلى السّجن. فقد أقترب من باب الزنزانة وكلَّمني وسألني عن عدد أولادي وعن باقي أفراد الأسرة. ووعدني بمساعدتي عندما يحكم عليّ بوضعي في غرفة فيها معتقلين من أصحاب الإمكانيات لكي يخفِّف عنّي المصروف. كان على علم بوجود ولدّي عمر ومحمد في هذا السجن، أمّا أنا فلا. لذلك لم أفهم أسئلته ووعده إلّا بعد أن التقيت بمحمد في المحكمة وبعد نقلنا إلى سجن عدرا وتسليم العسكري حاجيات عمر لمحمد.

من طرق التعذيب النفسي المُتَّبعة هو أنّني وضعت، عندما وصلت إلى فرع فلسطين، في غرفة خالية بقيت فيها واقفاً لساعات من دون أن يكلّمني أحد، ومنها أن المعتقل عندما يخرج من الغرفة إلى غرفة المحقق برفقة سجان يمر بوعاء فيه ماء وفيه طماشات، هي عبارة عن قطع من كاوتشوك دولاب سيارة له ربطة مطاطة، يطلب منه السجان أخذ واحدة ووضعها على العينين، ولأنها مبلولة تلتصق بالوجه وتمنع الرؤية كلّياً، فيسحبنه السجان من يده ويقوده إلى غرفة المحقّق. وهذا يجعل المعتقل يصطدم بالجدران أو يتعثر بعتبات الأبواب. ومنها أنّك في غرفة التحقيق لا ترى ما حولك وعندما تتعرض للضرب يأتيك مفاجئاً فلا تعرف من أين سيأتي وعلى أيّ جزء من جسمك سيقع. ومنها أنهم في اعتقالي الثاني وفي الجناح الثاني في سجن دمشق المركزي- عدرا تُركت أشرب الماء من خزان على سطح السجن والوقت صيف، وحرارة الماء حوالى ثلاثين درجة مئويّة، لمدة تزيد على الشهرين قبل أن يسمحوا لي بالحصول على ماء عاديّ، من أوعيةٍ يملؤها أحد السّجانين من ماء يأتي به صهريج من خارج السّجن. ومنها أنّهم في سجن صيدنايا العسكري سمحوا لي بشراء علبة تونة من ندوة في السجن فلمّا أحضرها الشرطيّ العسكريّ إذا هي بحاجة لمفتاح لفتحها، قلت له كيف أفتحها وليس لديّ مفتاح أو سكين، فقال عندما تريد أكلها نفتحها لك. بعد يوم طرقت الباب، كوسيلة لمناداة الشرطة، ولما جاء أحدهم طلبت منه فتح علبة التونة ففتح باب الغرفة بشكلٍ موارب وطلب مني وضع العلبة على الأرض ولما وضعتها وضع قدمه عليها وسحبها خارج الغرفة، ثم ذهب وعاد بها مفتوحة.

التمييز بين المعتقلين ثابت، إذ يكون التشدّد في المعاملة والتعذيب بحسب الانتماء السياسي. في الاعتقال الثاني، عندما قضيت ستة أشهر في الجناح الثاني في سجن دمشق المركزي- عدرا، كان سجناء ربيع دمشق، حبيب عيسى ووليد البني وفواز تللو وأنا، ثم جاء رياض درار، كل في غرفة صغيرة مساحتها أربعة أمتار، في حين كان في الغرفة المقابلة لغرفتي، وهي بنفس المساحة، أربعة من السلفيّين، مُنِعت عنهم الزيارات أو شراء لوازم من دكاكين السجن، فيما نحن يُسمَح لنا بشراء المعلّبات والمنظّفات. في فترة الاعتقال الثالثة في سجن صيدنايا العسكري كانت تُسمع في الغرفة المجاورة لغرفتي أصوات كثيرة، ما يدلّ على ازدحامها. وفي إحدى الليالي زار مدير السجن هذه الغرفة وتكلَّم بصوت مرتفع إلى أشخاص فيها، قائلا “هذا علماني إلى جانبكم ليش ما ذبحتوه”، فعرفت أن الغرفة خليط من مشارب سياسية مختلفة وأن مدير السجن يثير السجناء بعضهم على بعض.

المحور الثالث

لا يمكن تقديم وصف متكامل للسجن، وما يمكن وصفه هو ما عرفناه منه. فالسجن مبنى ضخم مؤلَّف من طبقات. الجزء العلوي مخصّص للإدارة وغرف التّحقيق، والسفليّ، تحت الأرض، سجن يحوي غرفاً جماعية وزنزانات. في فترة الاعتقال الأولى في فرع فلسطين وضعوني في الغرفة رقم 8، لم تكن مساحتها تتجاوز السبعة أمتار مربّعة، اقتطع منها ثلثها كحمام ومرحاض، فيها نافذة ركب عليها شرّاق لتجديد الهواء من الرطوبة ودخان السجائر. وقد تكدّس فيها سبعة وخمسون سجيناً التصقت أجسادهم بعضها ببعض. يقوم معتقل مكلَّف برئاسة الغرفة، يطلقون عليه اسم “شاويش”، بتسجيل أسماء الوافدين الجدد ويحدّد لهم مكان جلوسهم ونومهم بحسب الأقدميّة. يبدأ الدور من باب الحمَّام ويتحرّك معه الجميع كلّما خرج معتَقَلون كي يحلّ مكانه وافدون جُدُد. عند باب الحمام رائحة كريهة ورطوبة، والحمام بلا باب وصنبور الماء فيه مُعَطَّل والماء يتدفَّق منه على البلاط وتَنْتَثِر نقاطه إلى خارجه. في الليل يتولّى الشاويش تنظيم صفوف النوم، النوم على جنب واحد والأجسام متلاحِمة، وهذا ما يسمّونه “تسييف”. بعد تسييف العدد الممكن بحسب المساحة يبقى في الغالب عدد من المعتقلين لا مكان لهم على الأرض فيقضون الليل وقوفاً من الساعة العاشرة ليلاً، موعد النّوم الإجباريّ، إلى الساعة السادسة صباحاً، موعد النهوض من النوم، وهذا الفريق تُطلَق عليه صفة “سهّير”. في الصباح تفرّغ لهؤلاء مساحة لكي يناموا بعد تناول الفطور. عندما يخرج معتقلون تتحرَّك الصفوف بفعل الفراغ الناتج، لكن لِساعات قليلة، إذ سيصل تِباعاً معتقلون جددٌ.

الفطور مكوَّن في الغالب من ملعقة حلاوة أو مربَّى أو لبنة أو حبات زيتون أو بيضة مسلوقة على رغيف خبز. ويُحضَر الغداء من مطبخ قطعةٍ عسكريةٍ قريبة من الفرع. هو طبيخ مِنْ بطاطا أو باذنجان أو فاصوليا حب وأرزّ. البطاطا والباذنجان بقشرهما والفاصوليا حبات قليلة في بحر من المرق غير ذي لون أو طعم، ومعهما بعض العنب أو التفاح من الدرجة الثالثة. لكنّ المعتقلين يعيدون تكييف حبّات البطاطا والباذنجان لكي يسهل ازدرادها وذلك بالتخلّص من المرقة في المرحاض، ثمّ بهرس البطاطا مع المِلح والزّيت أو بتتبيل الباذنجان مع الطحينيّة والملح والزيت، يشتريها المعتقلون من ندوة في السجن. أمّا العشاء فهو في الغالب بطاطا مسلوقة. في بعض الأيام يكون الغداء دجاجاً مع الأرزّ الذي لا يكون في الغالب مستوياً. ويحصل كل معتقل على غرامات من اللحم.

عندما يصل الطّعام يوزّعه أحدهم على السُّفر، والسّفرة مجموعة من مُعتَقَلين يتشاركون تناول أطباق الطعام، وعندها يحدث مشهد دراميّ صاخب، ترتفع فيه الأصوات حول عدم عدالة القسمة وحول التّمييز في النوعية. ولذلك يُغَيَّر الموزِّع بين حين وآخر على خلفية الشكاوى من سائر المُعْتقَلين.

الماء بارد لا يمكن الاستحمام به، إلا أنّ السّجناء ابتكروا طريقة لتسخين الماء. يأخذون غطاءَيْ علبتَيْن معدنيّتَيْن، يفصلون بينهما بجسم عازل من خشب، ويربطون بينهما بخيوط تسحب من البطانيات، ثم يوصل كلّ غطاء بسلك متّصل من طرفه الثاني بالكهرباء، وهكذا يتحوّل الغطاءان “سخّاناً” يغطَّس في وعاء بلاستيك مليء بالماء فيسَخِّنه.

عندما يأتي المُعتقل يؤخَذ منه ما معه من أغراض (مال، ذهب، مَحافظ) وتوضع في الأمانات، ثم تبدأ بالاختفاء. فكلّ ورديّة سجَّانِين تَمْسَح الموجودات في الأمانات وتأخذ ما تراه مفيداً لها. والمال يُسْرق بطريقة ثانية. فكما ذكرت، كان يُسمح للمُعْتَقَل بالشراء من ندوة في السجن مرّة في الأسبوع، يشتري دخاناً وبعض أصناف الطعام الجافّة مثل الحلاوة والطحينيّة، والزيت والزعتر، والمنظّفات. وبعد فاتورة أو اثنتين يبلَّغ المعتقل بنفاد ماله مهما كان مقداره. والأنكى من ذلك أنّهم بعد تسليم المعتقلين المشتريات التي طلبوها يتردّد عليهم السّجّانون بالدور طالبين علب سجائر أو قنينة زيت أو كيس زعتر أو علبة حلاوة أو مرطبان طحينيّة أو صابون، والذي يمتنع عن إعطائهم يتعرّض للضّرب بعد تلفيق سبب لذلك. يذهب إذن جزء كبير من المشتريات إلى السجّانين. في سجن مخابرات أمن الدّولة كان الطعام، عند وصول السيارة التي تنقله من قطعة عسكرية خارج السجن، يتعرَّض للسّطو، إذ يتجمّع عناصر الفرع حولها ويبدأون بأخذ أفضل ما فيها، خصوصاً عندما يكون الغداء دجاجاً، عندها تُنهب أفخاذ الدجاج وصدورها وتُتْرَك لنا الأجنحة والرقاب والظهور، القليلة اللّحم والكثيرة العظام. ناهيك من نهب الفواكه المُرْفَقة، من عنب أو تفاح أو غيرهما.

في فرع فلسطين يُخْرَج المعتقَلون على فترات متباعدة إلى الممرّ حيث يجثو المعتقل على ركبتيه ليُخفِّف عنصر من المخابرات شعره بماكينة كهربائية. تخفيف الشعر وحسب، في ما لا يمكن اعتباره أبداً حلاقةً مرَتّبة.

لا يُسمح في سجون المخابرات ولا في سجن صيدنايا العسكريّ بالخروج لتنشُّق الهواء الطبيعيّ، كان هذا ممكناً في سجن دمشق المركزي فقط. كما أنّه لا يُسمح بالقراءة أو بالتسلية، إذ كانت تجري أعمال تفتيش عن أيّة ألعاب أو أدوات تسلية.

معظم السجّانين شِبه أمّيين ويتعاملون مع المعتقلين كأعداء شخصيّين لهم. يتعمّدون إهانتهم وإذلالهم وسلبهم بعض ما لديهم. كان في الغرفة عجوز لبنانيّ من حزب البعث العراقي كثير الكلام، ناداه أحد السّجانين ذات يوم ولطمه على وجهه بقوة وقال له إذا سمعت صوتك ثانية سيكون حسابك عسيراً.

في سجن فرع أمن الدّولة 265 كان يُسمَح بالخروج إلى الحمّام مرّة صباحاً وأخرى مساء، وعند الضرورة يُعطى مرضى السكري قنينة للتبول فيها.

الزيارات في سجون المخابرات ممنوعة، وهي ممكنة في سجن صيدنايا العسكري، مرّةً في الشهر، لكن بعد صدور الحكم على المُعتقل. أمّا في سجن دمشق المركزيّ فهي ممكنة مرة في الأسبوع وذلك بعد انتهاء التّحقيق معه.

المعتقلون في فرع فلسطين هم خليطٌ من عرب وسوريّين وفلسطينيّين ولبنانيّين وأردنيّين وأكراد، وقد تعدّدت أسباب اعتقالهم، من مهربي بشر وعملة وسلاح، إلى باحثين عن آثار ومحتالين ومحاولي عبور الحدود. وكلّها جرائم جنائيّة ليست من اختصاص المخابرات العسكريّة التي حدّدت مّهماتها بحماية الجيش من الاختراق الخارجي. كان هناك سوريّون من البعث العراقيّ وفلسطينيّون من أنصار ياسر عرفات، وأكراد من شتّى الأحزاب الكرديّة، ولبنانيون من أحزاب لبنانيّة معارضة للوجود السوريّ في لبنان، وأردنيّون تسوّقوا دخاناً أجنبيّاً بكميات كبيرة على خطّ العريضة على الحدود اللبنانية السورية.

قابلت شخصيّة كان لظروف اعتقالها وسجنها أبعاد مؤسِفة ومؤلِمة. هو أردنيّ مِنْ أهل الرمثا على الحدود السوريّة الأردنيّة كان يعمل سائقاً على خطّ عمّان دمشق. وصل إلى دمشق ليلة عيد الفطر، فاعتقد أن ظروف عطلة العيد والإجازات ستخفِّف الرّقابة، وعليه توجّه إلى منطقة العريضة على الحدود السوريّة اللبنانيّة حيث سوق التّهريب، وأشترى عشرين كروز دخانٍ أجنبيّ، “كنت” و”مالبورو” و”بول مول”. صادفه عناصر من المخابرات العسكرية وبدأوا بابتزازه، فدعاهم إلى مطعم وقدم لهم وجبة غداء فاخرة مع بعض زجاجات البيرة، شعر أنه كسب رضاهم فسألهم إن كان يستطيع شراء مسدس، فقالوا له “لا نعرف اسأل وإذا وجدت اشترِ”. ثمّ ذهبوا وأرسلوا زملاء لهم كي يأخذوا نصيبهم من الغنيمة. شعر الرجل أنه غدا عرضة لابتزاز وقح ورفض إعطاءهم ما يريدون، عندها اعتقلوه وحوّلوه إلى فرع فلسطين بتهمة سعيه لشراء أسلحة. في فرع فلسطين تعرض لضرب مبرح وعلى فترات متقاربة. هذا هو نفسه السجين الذي أخبرت أنّه يذهب إلى التحقيق مَشْياً ويعود زحْفاً.

من ناحية الأمراض فقد كان الإسهال والجَرَب هُما الأكثر انتشاراً، فيُعالج مريض الإسهال بحبة لمرّة أو أكثر، ومريض الجرب ببنزاوات البنزين، والمريض هو مَنْ يدفع ثمنها، أما إذا لم يكن معه مال فيتبرَّع له من لديه مال. وأما القمل فيُهْمَل أمره ويُتْرك من دون أيّ إجراء.

كانت الأحلام نادرة، هناك فقط الكوابيس، خصوصاً بالنسبة لمن يتعرّض للتّعذيب، فالأردني الذي ذكرته آنفاً مثلاً، كان يهذي أثناء نومه.

المحور الرابع

 

في الاعتقال الأول بقيت فترة طويلة بعد انتهاء التّحقيق من دون أن أعرف ماذا سيكون مصيري، إذ إنّه يمكن للفرع إصدار أحكام وتنفيذها داخل سجنه الخاص. كان المحقّق قد قالها لي صراحة: “لن نفرج عنك حتى يأتي من يعرفك. لم أفهم معنى قوله حتى جاء من يعرفني، وهو صديق لي دفع لهم مبلغاً من المال فأخلوا سبيلي. في الجلسة الأخيرة لم يُطلب مني وضع الطمّاشة، فقابلت المحقّق ومعه شخص آخر، بدا أعلى رتبة منه، وهو الذي قال لي: “عذّبْتَنا كثيراً حتى عرفنا ما نحتاجه عنك” واصطحبني إلى الطابق السادس وهناك أخلوا سبيلي.

في التجربة الثانية خرجت بعفو رئاسي، نقلنا أنا ومحمد رعدون إلى مقر شعبة الأمن السياسيّ حيث قابلنا مديرها آنذاك، اللواء محمد منصورة، كلٌّ على حِدة، وبعد كلام عن الوطن والوطنيّة والإشادة بوطنيّتنا أبلغنا بصدور العفو، وبأنّنا سنغادر إلى بيوتنا. وهكذا حصل، فقد أعادونا إلى الجناح الثاني لأخذ حوائجنا، وهناك قابلني رئيس مفرزة الأمن السياسيّ في السجن الرائد عمار وقال لي “لا أريد رؤيتك هنا ثانية”.

في التجربة الثالثة تجاوزنا أنا ومحمد محكوميّتنا بـ 12 يوماً، وعندما أصدر القاضي الحكم ستة أشهر وغرامة مالية مقدارها مائة ليرة عن كل منّا، أعفانا من الغرامة مقابل المدة الزائدة التي قضيناها. لكن المساعد المناوب في السّجن، حيث يتم إخلاء سبيلنا منه مساء، طالبنا بالغرامة فقلت له إنّني لن أدفع. فأخذنا إلى الضابط المناوب الذي أبلغته أنّ القاضي أعفانا منها وهو مصرّ على أخذها. وعندما قرأ نصّ قرار القاضي أخلى سبيلنا.

في المرة الأخيرة خرجت بعفوٍ رئاسيّ أيضاً بعد قيام ثورة الحرية والكرامة، وكان قد تبقّى لي من الحكم الذي صدر عليّ وأنا في السجن في محكمة الجنايات العسكرية مدته سنة ونصف السنة، على خلفية كتابتي من داخل السجن تعليقاً على تزوير الانتخابات الرئاسية في إيران في العام 2009 والتي فاز فيها محمود أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، وقد دِنْتُ فيها النّظام الإيرانيّ على تزويره إرادة الشّعب، وكنت قبلها قد قضيت حكماً مدّته عامان ونصف العام على خلفية مشاركتي في المؤتمر الوطني لإعلان دمشق. لم يفرجوا عني من السجن بل نقلت إلى الفرع الذي اعتقلني العام 2007، الفرع 265 لأمن دولة، حيث بقيت هناك بضعة أيّام بذريعة مقابلة اللواء علي مملوك مدير الشعبة آنذاك، لكن اللقاء لم يجرِ، فأُخْلِي سبيلي من هناك بعد ثلاثة أيّام.

 

قيادة إعلان دمشق في محكمة الجنايات الأولى في دمشق عام 2008 (أرشيف الكاتب)

 

عن الكاتب

علي العبد الله: ناشط سياسيّ دخل سجون الأسد في سوريا عدّة مرات لمدّدٍ قصيرة. لكن في المرّة الأخيرة حُكِم عليه بالسجن مدّة سنتين ونصف، من العام 2007 إلى العام 2009. أوقف العبدالله في فرع التحقيق في مطار المزّة، وفرع فلسطين، وسجن دمشق العسكري (عدرا)، وسجن مخابرات أمن الدولة، وسجن صيدنايا، وسجن دمشق المركزي، حيث كان شاهداً على طرق المعاملة وأساليب التعذيب النفسيّة والجسديّة فيها. اللافت أنّه كان معتقلاً مع ولديه، محمد الذي لازمه في نفس السجن، وعمر الذي كان في سجن صيدنايا.