“مدة التنفس (في سجن تدمر) كانت اعتباطية، تتراوح بين نصف الساعة وبضع ساعات من التعذيب… لذلك كنا نتمنى أن يُلغى “حقنا” في التنفس”

 

من سجن إلى آخر

في عتمة الفجر، عند الساعة الرابعة تقريباً، أيقظنا السجّانون بالقرع على أبواب المهاجع الحديديّة، وطلبوا منا أن “نضبّ أغراضنا جميعاً”، بِلا أي توضيحات إضافية. خرجنا من تحت البطّانيات، من دفء النوم، إلى برد كانون الثاني، مُشَتَّتي الذهن نتحرّك هنا وهناك، نصطدم بعضنا ببعض ونقول ما نفكر به، متسائلين عن الوجهة المُقبلة. الأمل والقلق، التفاؤل والتشاؤم، يتضاربان داخل الرؤوس وعلى الألسنة.

وجهتا نظر تتناوبان في جَوٍّ مِنَ التَّرقُّب والحذر: إطلاق سراح أم نقل إلى سجن آخر؟ في غضون ساعة انتهى الجميع من توضيب ثيابهم وأغراضهم الشخصية، مما يلزم عند الانتقال من مكان إلى آخر. وفي هذه الأثناء غلب الرأي المتشائم الذي عبّر عنه البعض بحذر: سوف ينقلونا إلى سجن تدمر! بدا هذا الاحتمال ضعيفاً في البداية لأن التساؤل عن سبب ذلك كان يستبعده. فقد أمضينا في السجن سنوات طويلة وقد حوكِم أكثريّتُنا، وبقيت أقليّة صغيرة قيد المحاكمة، والمحكومون لم يُنهوا مدّة عقوبتهم بعد، وهو ما أَسقَط فكرة إطلاق السراح الجماعي هذا، إلا إذا كان قد صدر عفوٌ عام. ولو كان الأمر يتعلّق بعفوٍ لاختلفت الإجراءات، ولَمَا أيقظونا في عتمة الفجر، والأهم من ذلك أنّهم كانوا قد بشَّرونا باستعادة حريتنا. أما المطالبة بتوضيب الأغراض على عجل فهو أقرب إلى فكرة النقل إلى سجن آخر.

ولكن مع ذلك لا يمكن أن ينقلونا إلى سجن تدمر بالذات، فليس هناك أي تفسير عقلاني يبرِّر هذا الاحتمال. فمنطق الأمور في هذه الحالة هو أنّهم لو كانوا ارتأوا أنّنا نستحقّ السجن هناك لَوَضعونا هناك منذ بداية اعتقالنا، أو على الأقل بعد انتهاء محاكمة كل واحد أمام محكمة أمن الدولة، وبخاصة لأنّ بعضنا لم يتبقَّ من فترة حكمه إلا سنوات أو أشهر قليلة نسبة إلى الفترة المنقضية منه. بل إن واحداً منا، ياسين الحاج صالح الذي سيصبح كاتباً معروفاً بعد إخلاء سبيله، قد أتمّ فترة محكوميته كاملةً، 15 سنة، وكان يتوقَّع إطلاق سراحه كلّ يوم.

كل هذه التساؤلات انقطعت بعدما انطلق الباص الذي ينقلنا من دمشق في طريق صحراويّ في اتجاه الشمال الشرقي، فقد تحدّد المقصد: سجن تدمر الرهيب الذي سبق وسمعنا عنه الكثير.

لم يكن هذا الإجراء اللامنطقي هو سبب تشوّشنا الذهني واستبعادنا فكرة النقل إلى تدمر، بل هي الآليّات الدفاعيّة في عقلنا الباطن التي راحت تعمل بنشاط لحمايتنا من الرعب الذي تثيره فكرة سجن تدمر في أوساط كلّ السوريّين.

إنّه السجن الذي كان، قبل ثمانينات القرن المنصرم، سجناً “تأديبياً” لمعاقبة العسكريّين الفارّين من الخدمة أو مرتكبي المخالفات الكبيرة. لكن بعد تمرّد الطليعة المقاتلة من الإخوان المسلمين في مطلع ثمانينات القرن الماضي سيق إليه الآلاف منهم ومن غيرهم من المعتقلين السياسيّين، حيث التعذيب هو جزء من الروتين اليوميّ، تعذيب لا حدود له يمكن أن ينتهي بموت ضحيته، هذا إذا لم يُعدَم البعض بعد محاكمات ميدانيّة لا تستغرق أكثر من بضع دقائق. من كان يساق إلى سجن تدمر لن يسمع أهله أخباره بعد ذلك، فلا زيارات ولا إجابات من السلطات الأمنيّة عن مصيره. ومن يكن محظوظاً ويخرج من هناك، بعد سنوات قد تتجاوز العقد، يخرج حطاماً بشرياً، من الناحيتَيْن الجسديّة والنفسيّة، في انتظار الموت.

كنا في الباص 30 سجيناً من ثلاثة تيارات سياسية: “حزب العمل الشيوعي” الذي أنتمي إليه، و”الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي”، و”حزب البعث – الجناح العراقي”. ونحن جميعاً محكومون أمام محكمة أمن الدولة، وقد تبقَّت فترات متفاوتة من محكومياتنا تبعاً لتاريخ اعتقال كلّ واحد منّا. وكانت إدارة جناح الأمن السياسي في سجن عدرا بدمشق قد استبعدت من رحلتنا أولئك الذين ما زالوا قيد المحاكمة، فبقوا هناك.

سنُدرِك شيئاً فشيئاً سبب نقلنا إلى سجن تدمر في صباح الثالث من كانون الثاني/يناير العام 1996. كانت قد جاءتنا لجنة من ثلاثة ضبّاط من الأمن السياسيّ برتبة لواء، في النصف الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر العام 1995، وقابلت كلاً منا بصورة منفردة، وعرضت علينا عفواً رئاسياً مقابل التعهد بالتوقف عن العمل السياسي والتعامل مع الجهاز كمخبرين. رفضت الأغلبية الكبيرة كلا الشرطَيْن، ووافق عدد ضئيل من المُتَّهمين بالانتماء إلى “البعث” اليمينيّ التابع للعراق، وليس كلّهم طبعاً. كان هذا الرفض، على ما يبدو، هو سبب نقلنا إلى سجن تدمر، كنوع من “التأديب” المتأخّر، أو لكسر شوكة من لم تطوّعه سنوات السجن المديدة.

غير أن العقاب شمل الجميع، على المبدأ العسكري الذي مفاده أن العقاب يَعمّ، والجزاء يَخصّ. وكان من حوافز اتِّخاذ هذا القرار هو ما عاينه الضباط الثلاثة، برتبة لواء، الذين دخلوا الجناح ورأوا مظاهر الاسترخاء في المهاجع، ومن ذلك تعليق حبال الخضار المجففة على جدار الجناح كالباذنجان والفليفلة وغيرها من مؤونة للشتاء! يبدو أنّ الضباط الذين واجههم السجناء برفض الخروج من السجن بشروط مُذِلَّة، قد أعادوا ذلك إلى ظروف السجن المريحة، واتفقوا على أننا بحاجة إلى ما يُكَسِّر رؤوسنا، فكان الحلّ هو الترحيل إلى سجن تدمر حيث العنف والإذلال اليومي والعزلة المطلقة ستتكفّل، في رأيهم، بتركيعنا وقبولنا بشروطهم. ذلك أننا جميعاً سنخرج بعد انتهاء تنفيذ أحكامنا، بعد أشهر أو سنوات قليلة، ولا بد من أَلّا نخرج كما دخلنا، بل متحوّلين إلى كائنات خائفة خنوعة لا تشكل أي خطر مستقبليّ، هذا على فرض أننا شكلنا خطراً في الماضي! هذه محاولة لاستنباط طريقة تفكير أولئك الضباط، أي النظام، وبالذات حافظ الأسد، في كيفيّة التعامل مع أيّ معارضة، لأن المذكور هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة حين يتعلق الأمر بإطلاق سراح المعتقل السياسيّ.

سأذكر هنا تفاصيل المقابلة التي أجريت معي في تلك المحاولة التي سبقت قرار الترحيل. كان الضباط الثلاثة جالسين وراء طاولة، وأمامهم أوراق يلقون النظر إليها قبل مخاطبتي. قال أحدهم: “أنت فلان الفلاني؟” فأجبته بالإيجاب، فراح يسألني عن المعلومات المكتوبة أمامه، كانتمائي السياسي، وفي أي كلية كنت أدرس قبل اعتقالي، وتاريخ اعتقالي، وهل أنا محكوم وبكم سنة، إلخ. ثم رفع رأسه وخاطبني قائلاً بما معناه: “لقد تغير العالم كثيراً منذ اعتقالك، وسقط النظام الشيوعي في روسيا والبلدان الشرقية، وتغيرت سوريا أيضاً، وقد قرّر السيد الرئيس أن يصدر عفواً عنكم والاكتفاء بالفترة التي سجنتم فيها. سيكون بمقدورك العودة إلى حياتك الطبيعية وإلى أهلك… ولا بد أن سنوات السجن قد أتاحت لك التفكير في هذه التحولات، فتغيرت أفكارك أيضاً. فهل حدث هذا التغيير؟” فأجبته باختصار: “لا، لم أتغيّر”. تبادلوا نظرات الاستغراب فيما بينهم، وتولّى ضابط آخر الكلام فقال لي: “تتعامل معنا فتخرج!” فأجبته بـ”لا” مرة ثانية. فطلب منّي الخروج.

الواقع أنني تغيّرتُ كثيراً بالفعل، أعني تغيّرت أفكاري بشأن أمور كثيرة كالاشتراكية والديموقراطية والعمل الحزبي وغيرها، لكن ما بقي ثابتاً وازداد رسوخاً هو موقفي من نظام الأسد الدكتاتوري وفهمي لآليات اشتغاله وإعادة إنتاج نفسه، وضرورة حدوث التغيير السياسي في سوريا. هذا هو الحدّ الفاصل على أيّة حال في “التغيّر” الذي في ذهن هؤلاء الضباط. أضف إلى ذلك أنني فهمتُ أن جوابي على سؤال “التغيّر” لا يتعلق بأي اعتبارات فكرية أو سياسية، بل هو جواب ذو صلة مباشرة بالكرامة الشخصية. فالمطلوب من وجهة نظرهم أن أعلن الاستسلام والرضوخ للقوة، وبهذا المعنى أجبت بالنفي على سؤال التغيير لأحافظ على احترامي لذاتي، وليس لإعلان أنني متحجِّر فكرياً أمام التحولات الكبيرة التي حدثت فعلاً في العالم منذ اعتقالي في العام 1983.

عليّ أن أذكر بشكل خاص جانباً من مقابلة الضباط مع ياسين الحاج صالح، الكاتب المعروف، لأنها كشفت مبكراً عن نواياهم بخصوص ترحيلنا إلى سجن تدمر، لكننا لم نحمل الأمر وقتها على محمل الجدّ. فحين عرضوا عليه الشرطيْن المشار إليهما أعلاه مقابل حصوله على العفو، رد عليهم قائلاً: “لقد حكمتم عليّ بخمس عشرة عاماً أمضيتها جميعاً في السجن، لم يبق لكم عندي أي شيء. سوف أخرج في أي لحظة، هذا حقي” فردّوا عليه بالقول: “ليست لديك أي حقوق. نخرجك حين نشاء. وإذا لم توافق على شروطنا سنرسلك إلى سجن تدمر!”. اعتبر ياسين، ونحن معه، أنّ هذا كان مجرد تهديد بهدف إخضاعه، ولم يصدِّق أنّه يمكن أن يتحول إلى حقيقة.

 

في سجن تدمر

أمضينا نحو أربع ساعات عبر الصحراء، مقيَّدي الأيدي، في حراسة عدد من عناصر الفرع، ولم نتعرض لأي مضايقات أثناء الطريق. بالعكس نصحونا أن نتخلص من أي شيء قد يكون معنا مما قد يتسبّب بمعاقبتنا في المكان الذي نقصده. وكان ذلك أول إقرار علنيّ بأننا ذاهبون إلى السجن الذي يثير الرعب لمجرَّد ذكر اسمه. وتهامس المتجاورون في مقاعد الباص أن علينا الاستعداد لـ”التشريفة” وهي التعرض للتعذيب لحظة دخول السجن، أي “الدولاب” كما افترضنا.

كانت المفاجأة الأولى أننا لم نحشر في دولاب وَنَتَلَقَّ الضّرب على باطن القدمين في لحظة وصولنا، بل حتى أنهم لم يفتشوا حقائب ثيابنا. طلبوا منا الوقوف في صفٍّ أحادي وخفض رؤوسنا وإغماض عيوننا، وساقونا في هذا النسق عبر ممرات إلى مهجع أغلقوا علينا بابه الحديد وتركونا لحَيْرَتِنا.

اكتشفنا بعدما فتحنا عيوننا أن عددنا هو 11 شخصاً، ولم نعرف أين اقتادوا البقية. بعد قليل أحضروا لنا بطّانيات، لكل شخص بطانية واحدة مهترئة، وما يسمى “عازلاً” للنوم عليه، وهو عبارة عن قطع من بطانيات عتيقة مُرقّعة بعضها ببعض، لا تزيد “سماكتها” عن سماكة البطانية التي سنتغطى بها. “عدّة النوم” البائسة هذه سترافقنا في السنوات التالية.

ثمّ اكتشفنا “الشرّاقة”، وهي تلك الفتحة المربَّعة في سقف المهجع التي تكشفنا أمام أنظار الحراس الذين يتناوبون على السطح ويتدخّلون حين يريدون بإصدار الأوامر وإطلاق التهديدات والشتائم علينا. فالسجين في تدمر مستباح تماماً داخل المهجع وخارجه.

في الصباح الباكر فتحوا الباب الحديدي السميك وأمرونا بالخروج عراة إلا من “الشورت” أي الكيلوتات. وبدأت التشريفة التي ظَنَنَّا البارحة أنَّهم أعفونا منها ربما لأننا سجناء عتيقين أمضوا سنوات في السجن قبل سوقهم إلى هذا المكان. كنا عراة ومعصوبي العيون في طقس “المربعانيّة” القارس نرتجف من البرد والخوف ونحن نسمع صوت الجلد وصرخات الألم ممَّن سبقونا في الدور. حين جاء دوري حشروني في دولاب سيارة بحيث يصبح رأسي وكتفاي وساقيّ ظاهرين، رفعوا الساقين وبدأ الجلد بما يعرف بالكابل الرباعي، وهو نوع من القشاط المطّاطي المقوّى بأسلاكٍ معدنيّة. حين تلقيت أول ضربة به على باطن قدميّ شعرتُ أن قلبي يعتصر ونفَسي ينقطع وظننتُ أنني سأموت حتماً بعد بضع ضربات. صلابة الكابل وقوة الضَّرب أُضِيفا إلى وضعية جسمي المحشور داخل الدولاب كانت كلّها كفيلة بالقتل. تلقينا 100 جلدة لكل واحد منّا كما عدّ البعض أثناء انتظار دورهم.

لكني لم أَمُت، ولا مات أيّ منا. بعد انتهاء “الدولاب” أمرونا بارتداء ملابسنا. كان الدوس على الأرض الاسمنتية بعد ذلك الجلد مؤلماً بدوره، لكن فرحة الانتهاء من التشريفة وارتداء الثياب غَطَّتْ على الإحساس بالألم. أمرونا بالدخول إلى المهجع وضبّ أغراضنا. حين دخلنا وجدنا أغراضنا مبعثرة على الأرض، فلممناها ولففناها بالبطانيات والعوازل. ثم اقتادونا، معصوبي العيون مطأطئي الرؤوس، عبر ممرات، إلى مهجع آخر هو الذي سنستقر فيه بعد ذلك اليوم.

اسمه “مهجع المستوصف” ربما لأنهم كانوا يستخدمونه في السابق لهذا الغرض، لكنّهم حوّلوه إلى مستودع آخر للتعساء نظراً لعدد السجناء الكبير ولضيق مساحة المهاجع. كان بناء المهجع غريباً، فهو يتألّف من قسمَيْن متَّصلَيْن يتفرّعان بشكل زاوية مُنْفَرِجة، ربّما لأنهم وَحَّدوهما في وقت لاحق بعدما كانا منفصلَيْن. تقع الشرّاقة في النصف الأمامي من سقف المهجع الذي يبدأ بالباب الحديديّ، ولذلك لا تمكن رؤية النصف الداخلي من المهجع الذي يُصبح محجوباً عنها نسبيّاً. وهكذا صففنا عوازلنا بشكل متلاصق تقريباً في القسم الداخلي غير المكشوف، فالمرء يختار بداهةً ألا يكون تحت الأنظار طوال النهار والليل. وبقينا هكذا طوال أشهر إلى أن انتبه أحد الحراس وسألنا لماذا ننام هناك، وأمرنا بالانتقال إلى القسم الأمامي لنصبح تحت الشراقة طوال الوقت.

وكان هناك مرحاض مفصول عن القسم الأماميّ من المهجع بجدار وله مدخل بلا باب. وغير ذلك وجدنا أنّ مَنْ سبقنا من سجناء قد صنعوا من أكياس الخبز الرقيقة حبالاً مجدولة نسجوا منها شباكاً علقوها على الجدران بطريقة تتيح وضع الثياب فيها، إضافة إلى حبل طويل يمتد بين جدارين يُستَعمَل لتعليق الغسيل. أخيراً كان هناك لمبة وحيدة معلقة عالياً على أحد الجدران، وحين تحترق اللمبة ندفع نحن ثمن استبدالها بأخرى. وحدث مرة أن جعلونا ندفع أيضاً ثمن تغيير قفل الباب! وسبق أن تعرضنا لهذا الإذلال الإضافي في تحميلنا بعض تكاليف سجننا، وذلك عندما نُقِلْنا في العام 1992 من سجن حلب إلى سجن عدرا في دمشق. فبعد خروج الحافلة التي أقلَّتنا من المدينة، بدأ أحد عناصر دورية الأمن السياسي المرافقة بجمع “ثمن التذاكر من الركاب”! وصودِف أنّه لم يكن معي أي نقود، وهذا ما أفرحني لأنني لن أدفع! وهذا ما قلته للعنصر حين طالبني بالدفع. لكن السجين الذي كان بجانبي بادر ودفع عني، وهو ما أغاظني كثيراً وقد صارحْتُه بذلك.

تمثَّل الروتين اليومي لفتح باب المهجع في مواعيد تقديم وجبات الطعام، مرّتين وأحياناً ثلاثاً، وكانوا يقدِّمون مرتين في الأسبوع وجبة عشاء إضافة إلى الوجبتَيْن اليوميتَيْن. كذلك موعد “التفتيش” مرة كل يوم حوالى الظهر. ويعني التفتيش التفقّد، يدخل المساعد أول مع عدد من العناصر ويعدّنا للتأكد من تمام العدد. نؤمر بالوقوف في صفين ووجوهنا تجاه الجدار، برؤوس محنية وعيون مغمضة. وفي التفتيش الأول ضرب أحد العناصر كفّاً على رقبة آرام كرابيت وقال له: “أنت رئيس المهجع ولاك!”

كان رئيس المهجع هو الموكّل بمخاطبة الحراس كلّما حضروا، وكذلك إذا أراد حارس أن يملي أوامره على المهجع من خلال الشراقة. وأثناء التفتيش يسأله ضابط الصفّ عن العدد، وعليه أن يجيب بذكر العدد مع عبارة “المهجع تمام حضرة الرقيب أول”. والرقيب أول هو رتبة عامة مُغْفَلة تطلق على أي عنصر يخاطبنا بغض النظر عن رتبته الحقيقيّة أو كونه بلا رتبة. الجميع بالنسبة إلينا “رقيب أول” ما لم يذكر خلاف ذلك. هذه الغُفلة هي نظام الأشياء في سجن تدمر الذي يتوزَّع على عدد غير معروف من “الرقيب أول” بلا أسماء ولا وجوه، وهم يمثِّلون الجهة الحاكمة، أي النظام. وكذلك هناك عدد غير معروف أيضاً من السجناء (على مستوى السجن عموماً) بلا أسماء ولا وجوه أيضاً. إنه تمثيل مصغر للنظام والشعب. صحيح أن الحاكم الأوحد، حافظ الأسد، معروف بالاسم والوجه أكثر مما يحتاج العالم، لكن “النظام” هو شيء يلفه الغموض، سرّي، يعمل في الخفاء، غالباً في الليل، قلة من الناس يعرفون أسماء ووجوه حلقاته الضيقة المُحيطة بـ”الرئيس”.

نزل تعيين آرام في موقع “رئيس المهجع” وبالاً عليه لفترة طويلة، فهو “مسؤول” عن أي مخالفة قد تحدث في المهجع، ويتلقّى الضرب كل حين وحين. وإذا قرع على باب المهجع لأي من الأسباب المذكورة عليه أن يكون جاهزاً للردّ بصوت مسموع من خلال الباب المغلق، ما لم يؤمر بفتح الطاقة الصغيرة في الباب. لذلك كان آرام في حالة استنفار دائم يذرع مسافة البضعة أمتار وصولاً إلى الباب، ويربض خلفه إذا اقترب موعد فتحه في المناسبات المعتادة، أو سمع وقع أقدام في الخارج. ستتغيّر بعض الظروف بعد أكثر من سنة حين تلقى مازن شمسين أول زيارة للمهجع، فقد تمكن أهله من الحصول على إذن بالزيارة بعد محاولات كثيرة. فالقاعدة العامة هي منع الزيارات عن الجميع. في تلك الزيارة التي بثت الفرح في قلوبنا جلس معهم رقيب أول عرفه أهل مازن. فأصبح مازن “يمون” عليه بقدر ما تسمح شروط سجن تدمر. وبعد فترة، بشجاعة وشهامة سيثبتهما في مناسبات أخرى أيضاً، طلب مازن من الرقيب أول “دريكيش” أن يعيّنه رئيساً للمهجع بدلاً من آرام، فوافق على ذلك وارتاح آرام من التوتّر الدائم الذي كان ينقله إلينا أيضاً بصورة لا مفرّ منها. أما سبب إطلاق لقب “دريكيش” على ذلك الرقيب فحدث كما يلي: انقطعت المياه في المهجع بسبب أعمال حفر كانوا يقومون بها لبضعة أيام. فطالب رئيس المهجع بتأمين الماء، فأمر الرقيب عناصره قائلاً: “أحضروا لهم ماء دريكيش” بتلك السماجة المعروفة لدى العسكريين حين “يمزحون” أو يتظارفون (هنا نتحدث عن الشرطة العسكرية التي كانت تحكم سجن تدمر).

 

الحياة في السجن

كان “التنفّس” يحدث بصورة غير منتظمة، فقد يمرّ شهر أو أكثر بلا تنفّس، وقد يخرجوننا مرّتين في أسبوع واحد، أي اعتباطياً تماماً، مثله مثل مواعيد توزيع الطعام التي ليس فيها أي دقّة. كان لكل مهجع باحة خاصة به، مساحته أقل من مساحة المهجع، تسقفه شبكة من الأسلاك الشائكة بحراسة عنصرَيْن مسلَّحَيْن. ومدة التنفس اعتباطية أيضاً، تتراوح بين نصف الساعة وبضع ساعات من التعذيب. ذلك أن الحرّاس، فوق، إما يأمروننا بالجلوس على الأرض لصق الحائط في صفين متلاصقين وعيوننا مغمضة ورؤوسنا منكّسة دائماً، أو أن نقوم بـ”تمارين” عسكرية هي “مشية البطة” و”الرقصة الروسية” (التمرين التاسع) وتمرين الضغط (التمرين السادس) وعليك أن تتابع التنفيذ إلى أن يوعز إليك بالتوقُّف. فكان هذا تعذيباً حقيقيّاً لا يستطيع الاستمرار فيه أحد منا، بأجسادنا الهزيلة بسبب شحّ الطعام والظروف القاسية التي نعيش فيها. فإذا أُنْهِك منفِّذ التمرين أو لامس بطنه الأرض في التمرين السادس، قال له الحارس: “عَلِّم نفسك!”.

نظام “التعليم” هذا رافقنا طوال سنوات السجن في تدمر، ومعناه أن “المُعَلَّم” سيعاقب بالجلد حين يفتح باب المهجع. فعند توزيع الفطور يسأل رئيس الدورية رئيس المهجع عن المعلَّمين، ويأمر بخروجهم ليتلقَّوا الجلد على باطن القدمين. وفي إحدى المراحل التي امتدَّتْ شهوراً، كان هذا التعذيب يتكرّر بشكل يومي، فإذا لم يكن هناك معلّمين يصدر الأمر بخروج أربعة أو خمسة أشخاص بلا تعيين ليخضعوا للتعذيب. وفي إحدى المرّات عُلِّم عبد الله قبارة (أبو نجم) البالغ من العمر نحو ستين عاماً في يومين متتاليين، فبادر مازن شمسين إلى الخروج بدلاً منه في المرة الثانية. إنها شجاعة وشهامة لا يمكن أن تصدر من كل شخص، فأنت لا تعرف كم جلدة ستتلقى، ومِن الممكن أن تصاب بعطب أو حتى أن تموت إذا أرادوا لك ذلك، أو لسوء تقدير.

لذلك كنا نتمنى أن يُلغى “حقنا” في التنفس.

هناك مناسبة أخرى كان يخرج فيها أحدنا أو عدد منّا من المهجع من أجل دفع “فاتورة المشتريات”. فقد كانوا يسجّلون بعض احتياجاتنا كمعجون الأسنان والدخان واحتياجات أخرى بسيطة، مرة كل ثلاثة أشهر تقريباً، ثم يحضرون ما توفر منها بعد بضعة أيام. وأخيراً يطلبون أن يخرج أحدنا من أجل الدفع. ذلك لأنهم حجزوا كل ما معنا من نقود “في الأمانات”. وحين يخرج أحدنا ممن يملك رصيداً يُخْصَم مبلغ الفاتورة من رصيده، أي يُطْرَح رَقْمٌ من رَقْمٍ على الورق، فلا نرى أو نلمس النقود. كان مجموع أرصدة المهجع مبلغاً معقولاً كفانا لفترة طويلة، ثم جاءت بضع زيارات استثنائية ومتفرقة، لمازن والمترجم المعروف الحارث النبهان والطبيب والكاتب المعروف راتب شعبو، فأضيفت بعض الأموال إلى الرصيد. والخروج لدفع الفاتورة أيضاً مناسبة لتلقي الضرب “العابر” ليس فقط من عناصر الشرطة العسكرية، بل حتى من “الباحاتي” أو “الخزمتجي” وهو سجين غير سياسي، بل عسكريّ غالباً، من القسم العسكري في السجن، يؤدّي بعض الخدمات كتوزيع الطعام، طبعاً برفقة الحراس وتحت إشرافهم.

كان الطعام شحيحاً جداً، باستثناء الخبز الذي غالباً ما كان يكفي ويزيد. والطعام محصور بطبختين تقدمان باستمرار، وهما البرغل أو الأرزّ، بلا دسم تقريباً، مخلوطاً بمرق البندورة، وإما بطاطا بقشرها أو فاصولياء بيضاء أو بازلاء. لكن التوزيع “السريع” على المهاجع يقسم محتويات المرق تقسيماً عجيباً، فغالباً ما كانت تصلنا ثلاث أو أربع قطع من البطاطا في طشت من المرق، ويجب أن تُشْبِع كل نزلاء المهجع. (بعد بضعة أشهر من توزيعنا الأوّلي على المهاجع، ضمُّوا إلى مهجعنا 11 زميلاً آخرين من الحزبَيْن الشيوعيّين، فأصبحنا كلنا في المهجع شيوعيّين، أما الثمانية الباقون المتّهمون بأنهم من البعث العراقي فلم نرهم أبداً).

كنا نستلم الطعام في طشوت من البلاستيك، بما في ذلك الشاي على الفطور. وكانت وجبة الفطور للسجين الواحد نصف بيضة أو أقل، أو ملعقة صغيرة من اللبنة أو الحلاوة الطحينيّة أو خمس إلى ستّ حبّات من الزيتون، أو ملعقة مربّى. وبسبب هذه الكمّيات الشحيحة كنا نحرص على التوزيع بدقّة على مَنْ في المهجع.

لكن الأصعب في موضوع الطعام هو طريقة استلامه، ففيه احتكاك بـ”السلطة” أي الرقباء الأوّلين والخزمتجية، فيمكن بالتالي توقّع كل شيء. كان عند “الرقيب أول” الغُفْل هوسٌ عجيبٌ بالسرعة، وكأن الأمر يتعلق باللحاق بموعد انطلاق رحلة بالطائرة أو القطار! في مكانٍ الزمن فيه مبذول ووفير وراكد. كان نزلاء المهجع يتناوبون على استلام الطعام في “سخرة” يوميّة من ثلاثة أشخاص، حين يقترب موعد استلام الطعام، يحملون طشوتهم وينتظرون بترقب وراء الباب الحديد. وفي لحظة يقرع الباب ويصرخ الرقيب أول: “شد الباب يا ….!” (ولك أن تضع هنا أي شتيمة ثقيلة محل النقاط، فهي صيغة المخاطبة لديهم). وشدّ الباب ضروري ليتحرك الدرباس في حجرته فيفتح الباب. و”يتدفق” أفراد السخرة إلى الخارج واحداً بعد واحد بسرعة، قافزين من فوق العتبة الحديدية المرتفعة، منكسي الرؤوس، مغمضي العيون. فتملأ طشوتهم بالطعام ويعودون بسرعة إلى الداخل. وفي غضون ذلك على الشخص أن ينتبه إلى عدم تعثر قدمه بعتبة الباب، وألا يتسبب في اندلاق شيء من الطشت الذي يحمله. فإذا وقع في واحدة من الأخطاء تعرض لعدة صفعات عنيفة من الرقيب أول أو أمره هذا بلحس ما اندلق من طشته عن الأرض، أو حتى للتعليم أي لدولاب في وقت لاحق. والرقيب يصرخ “طوال” فترة استلام الطعام: “أسرع من هيك يا …”. وفي إحدى المرات ضبطت ساعتي لأقيس الزمن الذي تستغرقه هذه العملية، فكانت 11 ثانية بالضبط! ما زلت أستغرب هذه السرعة غير المعقولة. فالباب لا يتسع لمرور أكثر من شخص واحد في كل مرة. فإذا استغرق كل واحد ثانية واحدة في الخروج، وأكثر من ذلك في الدخول لأنه يحمل بيديه طشتاً يمكن أن يندلق شيء مما فيه بسبب سرعة الحركة، كان لدينا أكثر من ثماني ثوان، وتبقى ثلاث ثواني لسكب الطعام!

كما أنّ الاغتسال والحلاقة موضوعان جديران بذكر بعض الأسطر أيضاً. كان وصولنا في عز المربعانيّة كما أسلفت، فلم يفكر أحد في الاغتسال طوال أسبوع أو أكثر، فليس في سجن تدمر مياه ساخنة كما كانت الحال في سجني حلب وعدرا. ولكن لا بد ممّا ليس منه بدّ. وهكذا بدأ عدد من المتطوعين بالاغتسال في الصباح الباكر بالماء المثلج في برد المربعانية. ثم لحقه الآخرون بالتدريج. كان النوم إجبارياً بين السابعة مساء والسابعة صباحاً. فكنا نستيقظ في السادسة وندخل الحمام تباعاً فنغتسل، أغلبنا كل يوم، قبل استيقاظ الحارس فوق المهجع. وكنا نقوم ببعض التمارين البدنية بجسم ثابت من نوع التسخين قبل الاغتسال.

أما الحلاقة فكنا نؤمر بها مرتين كل أسبوع، ثم أصبحت ثلاثاً، لأن الرقيب أول كان دائم الشكوى من “طول” شعورنا مع أن الحلاقة بالماكينة وعلى الصفر!

أثناء فترة النوم الذي يفترض أن يمتد 12 ساعة، ممنوع دخول الحمام لقضاء الحاجة، ويكون هناك مناوب ليلي في المهجع يتبدل كل ساعتين مع تبدل الحراس، ينوب عن رئيس المهجع في أنه الشخص المخاطب من قبل الحارس فوق السطح الذي قد يخطر له أن يتسلى بأذية السجناء، بالمناوب الليلي أو بـ”تعليم” أحد النائمين بدعوى أنه تقلّب أثناء نومه أو اضطر إلى دخول الحمام، وهذه من الكبائر.

بالرغم من كلّ هذا الانكشاف كنا نقتنص لحظات خاصة مسروقة من المراقبة. فكنا نجتمع في حلقات صغيرة نتبادل فيها الكلام همساً، مستعيدين الذكريات أو معبِّربن عن أحلام ما بعد الخروج، أو متداولين فيما يصلنا من أخبار من خلال صحيفة البعث التي كانت توزع علينا يومياً، علماً أنّ فيها كلّ شيء ما عدا الأخبار. بل إننا طوّرنا بعض الألعاب، فصنعتُ طقم شطرنج لاقى شعبية واسعة. كانت الرقعة عبارة عن شرائط ورق كروزات الدخان البنية والبيضاء التي جعلتها متداخلة بحيث تتشكل مربعات متقاطعة من اللونين. والأحجار من الكرتون المقصوص بواسطة إبرة على شكل أحجار الشطرنج لكنها مسطحة بدلاً من أن تكون منتصبة فوق الرقعة. وطلب مني ثلاثة رفاق أن أعلّمهم اللغة التركية، وكنت قادراً على تعليمها بلا مراجع. فكنت أستعين بكلمات أغانٍ أو مقاطع من قصائد شعر أحفظها فأبني عليها الدرس. وكنا نستعمل في الكتابة أنابيب معجون الأسنان الفارغة بعد حك طرفها بالحائط فتكتب مثل قلم الرصاص. أو كنا ننقسم إلى فريقين ونلعب لعبة “من غير كلام” فنستعيد ما نتذكره من أسماء أعلام أو شخصيات أدبية أو سينمائية، ونتعاون على حلّ الأحجية.

كل الكلام يُهْمس همساً وبعيداً عن رقابة الحراس، لأن الكلام ممنوع تماماً داخل المهجع أو في الباحة. ننطق فقط حين يخاطبنا الرقيب أول فنردّ بقدر ما يتطلّب السؤال.

مرتين سهرنا إلى وقت متأخر نسبياً، أي إلى ما بعد السابعة مساءً. كانت الأولى حين طلب منّا الرقيب أول، بواسطة رئيس المهجع، كتابة مواضيع تعبير للصف التاسع! وقد فهِمنا أنّ الأمر يتعلق بابن أحد حكام السجن، ربما المدير أو أحد مساعديه، وقد حدّد له أستاذه الخاص (كما افترضنا) أن يحفظ بصماً تسعة مواضيع تعبير إنشائيّ يتوقع أن يأتي واحد منها في الامتحان. أعطونا ورقاً وأقلاماً، وتوزّعنا الموضوعات فيما بيننا، وانهمكنا في العمل حتى ساعة متأخرة من الليل، ونحن نتكلم ونضحك بصوت مسموع، بعد تبادل النصوص التي كتبناها لنقرأ ما كتبه كل واحد.

في المرة الثانية جاءت زيارة لواحد من الشباب المذكورين أعلاه، ربما مازن، وقد أحضرت أمه كمِّية كبيرة من الطعام كان علينا أن نأكل أكبر قدر منه قبل أن يفسد، فقد كنا في صيف الصحراء ولا يصمد الطعام المطبوخ لفترة طويلة. فطلب رئيس المهجع من الرقيب أول أن يسمح لنا بالسهر من أجل الأكل وهو ما كان لنا. أكلنا حتى التخمة طعاماً طيباً كنّا نسيناه منذ سنوات. لقد أحضرت أم مازن حتى أكلة سمك!

الخروج

خرجت من سجن تدمر في 9 حزيران/يونيو العام 1998، أي بعد نحو سنتين ونصف من فترة تدمر، وبعد خمسة عشر عاماً وثلاثة أشهر من اعتقالي. كان الترتيب يقضي بأن يخرج كلّ واحد تنتهي فترة حكمه، أما ياسين فقد أتمّ عاماً إضافياً فوق حكمه ثم خرج. ومنذ شباط/فبراير العام 1998 توقّف إطلاق سراح من ينتهي حكمه، فاجتمع خمسة منّا إلى حين أعيد فتح الباب وأُطلِق سراحنا معاً في 9 حزيران/يونيو، فيما بقي رفاقنا الآخرون ممّنْ لم تنته فترة حكمهم بعد، وانضم إليهم من لم يساقوا إلى تدمر في دفعتنا، بعد انتهاء محاكماتهم تباعاً.

في الصباح التالي ليوم وصولي إلى حلب ليلاً خرجتُ في باكراً أريد رؤية المدينة التي عشت فيها سنوات ما قبل الاعتقال. تجوّلت ساعات في الشوارع أستعيد ألفتي معها. وانتهى بي الأمر إلى مقهى على ضفة “نهر قويق” وقد سميت المنطقة بـ”تجميل قويق” بعدما أغلقوا سطح النهر الجاف الذي كان قد تحوّل مصدراً للروائح الكريهة والأوبئة.

جلستُ إلى طاولة وشربت القهوة وأنا أقرأ عناوين جريدة الحياة التي سأبدأ الكتابة فيها بعد بضع سنوات. كان صباحاً ربيعيّاً جميلاً، حاولتُ في أجوائه أن أنسى ما لا يُنسى من روتين سجن تدمر. بعد قليل اجتمعت تباعاً على الطاولة المجاورة نساء مسنّات في كامل زينتهِنَّ وانهمكْنَ في الكلام والضحك. كان ظهري إلى طاولتهن، أسمع أصواتهن ولا ألتقط أي كلمة مفهومة، فبدا لي مجموع تلك الأصوات كزقزقة عصافير صاخبة على الأشجار. وشعرت بمتعة لا تضاهيها متعة. هذه هي الحياة العادية التي تقتُ إليها منذ سنوات. هذا ما قلته في نفسي وتركت الجريدة من يدي لأنغمس في تلك المتعة.

 

عن الكاتب

ولد بكر صدقي في مدينة حلب في العام 1959، كان يدرس في كلية الاقتصاد في جامعة حلب حين تم اعتقاله في العام 1983، أي في عهد نظام حافظ الأسد، بتهمة الانتماء إلى “حزب العمل الشيوعي” المحظور. أمضى في الاعتقال العرفي، في إطار قانون الطوارئ، تسع سنوات قبل تقديمه إلى محكمة أمن الدولة في دمشق التي حكمت عليه بالسجن 15 عاماً مع الأشغال الشاقة، بتهمة “الانتماء إلى منظمة سرية تهدف إلى قلب نظام الحكم” بوسائل إرهابية وفقاً للمادتين 304 و306 من قانون العقوبات. وأمضى بقية مدة حكمه بين سجني عدرا في دمشق وتدمر، إلى أن أطلق سراحه في حزيران 1998 بعد مرور ثلاثة أشهر على انتهاء حكمه.

لم يتمكن من إتمام تعليمه الجامعي، واتجه لاحتراف الترجمة عن اللغة التركية وكتابة مقالات سياسية وثقافية في الشؤون السورية والعربية والتركية، في الصحف اللبنانية والعربية.

أصدر أكثر من 20 كتاباً مترجماً في الأدب التركي، ويكتب بانتظام في صحيفة القدس العربي مقالة رأي أسبوعية.