لم يكن الملعب البلدي في مدينة الرقّة أوّل ملعب يتحوّل سجناً، ففي أماكن مختلفة من العالم، وفي عدّة مناسبات استولت بعض الأنظمة الاستبداديّة على ملاعبَ وحولّتها سجوناً لمعارضيها. وكان لذلك أسباب عملية، فالملاعب تتّسع لأعداد كبيرة من الناس ويسهل فصلها عن محيطها، أي بعبارة أخرى تكون مهيّأة لتُعْتمد كمراكز اعتقال جماعية.
اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية بين عامي 1936 و1939، وكانت كلفتها باهظة على تركيبة المجتمع الاسبانيّ. فقد انتهت بانتصار القوميّين على الجمهوريين. ومنذ اليوم الأول قرّر قائد القوميّين الجنرال فرانسيسكو فرانكو تعزيز نصره والتخلّص من كل مصدر معارضة محتملة في المستقبل، فاعتقل آلاف الجمهوريّين وسجنهم في 300 مركز اعتقال على الأقلّ في أنحاء إسبانيا، منها الكنائس والمصانع وحلبات مصارعة الثيران. وفي مدريد وحدها حُوّلت ثلاثة ملاعب إلى مراكز اعتقال جماعيّة، وهي ملعب ميتروبوليتانو (Metropolitano)، وملعب فييغو تشامارتين (Viejo Chamartín) الذي كان ملعباً لنادي ريال مدريد، وملعب فاييكاس.
استُخدم ملعب فاييكاس مركزاً للاعتقال والإعدامات لأربعة أسابيع فقط. ويذكر السجناء في شهاداتهم أنّ ظروف الاعتقال كانت سيئة جداً لدرجة أن بعضهم قد مات بسبب البرد والجوع والمرض، فيما أُعدم آخرون وأفرج عن البقية، قبل أن يعود الملعب لاستضافة مباريات كرة القدم.
استمر نظام فرانكو الاستبداديّ حتّى وفاته في العام 1975. وفي فترة حكمه الطويلة لم يتحدّث أحد في العلن عمّا جرى في ملعب فاييكاس. وحتى بعد وفاته بقيت قصص الضحايا طيّ الكتمان، وذلك تطبيقاً لـ”ميثاق النسيان” الذي وقعته آنذاك الأحزاب السياسيّة اليساريّة واليمينيّة بعد عودة إسبانيا إلى نظام الحكم الديمقراطيّ. وقد نصّ الاتفاق على عدم محاسبة مرتكبي الجرائم وقادة النظام الاستبدادي أثناء الحرب الأهلية، وإغلاق صفحة الماضي خوفاً من تجدد الصراع. وقد تكرّس هذا الاتفاق مع قانون العفو الذي صدر في العام 1977.
ولأن القانون الدَّولي لا يعترف بالعفو عن مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، طالبت الأمم المتحدة إسبانيا تكراراً بإلغاء هذا القانون. ومع ذلك ظلّ الاتفاق حاكماً لعلاقة إسبانيا الرسميّة مع ذلك الماضي، عدّة عقود.
لكن ذلك تغيّر في الألفيّة الثالثة. ففي العام 2004 شُرّع قانون “الذاكرة التاريخية” الذي ألغى بعض التشريعات من حقبة فرانكو وأزال رموز نظامه من الأبنية الحكومية. أمّا قانون “الذاكرة الديموقراطيّة”[1] الصادر في العام 2022، فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ أنشأ سجلاً للضحايا، وعمل على البحث عن المدفونين في مقابر جماعية، وعلى تكريم كل من عانى من النظام الاستبدادي. وهذا يعني أنّ حوالي 400 ألف شخص اعتقلوا لأسباب سياسية في فترة حكم فرانكو بات بالإمكان تذكّرهم وتكريمهم.
أما ملعب فاييكاس، فأعيد ترميمه وانتهت أعمال البناء فيه عام 1976، أي بعد أشهر من موت فرانكو. وبات يُعرف اليوم باسم: كامبو دي فوتبول دي فاييكاس[2](Campo de Fútbol de Vallecas).
افتتح ملعب تشيلي في مدينة سانتياغو في تشيلي في العام 1969، وهو أول ملعب مسقوف في البلاد ويتّسع لـ 6500 شخص. استضاف الملعب أحداثاً رياضية وموسيقية، منها مهرجان الأغنية الجديدة. وفي العام 1969، فاز مغني الأغاني الفلكلورية المحبوب فيكتور جارا بالجائزة الأولى في مهرجان الأغنية الجديدة ضمن الملعب.
لكن بعد أيام من الانقلاب الذي نفذه الجنرال أوغستو بينوشيه (Augusto Pinochet) في 11 أيلول/سبتمبر العام 1973، حوّل الملعب إلى مركز اعتقال وتعذيب. وبطريقة مشابهة لما حدث في إسبانيا قبل عدة عقود، اعتُقل معارضو النظام الجديد من اليساريّين وأعدم كثيرون منهم. وهنا أيضاً مرّت سنين عديدة قبل أن تظهر حقيقة ما حدث.
أزاح انقلابُ الجنرال بينوشيه حكومةَ تحالف الوحدة الشعبية المنتخبة ديموقراطياً بقيادة الرئيس سالفادور أليندي، وفرَضَ نظام حكم ٍعسكريّ. ولم يلبث جنود بينوشيه أن اعتقلوا آلافاً من مناصري حكومة أليندي وسجنوهم في عشرات مراكز الاعتقال، وكان ملعب تشيلي أهم تلك المراكز.
خلال شهرين بعد الانقلاب، سُجِن في الملعب ما بين 12 ألفاً و14 ألف معتقل. حيث احتُجز الرجال في أرضية الملعب ومدرجاته، والنساء في غرف تبديل الملابس، أما التحقيقات فجرت في المضمار، الذي قُتل فيه عددٌ غير معروف من الناس.
وقد ألهمت أحداث هذا الملعب عدداً من الأفلام السينمائية، منها الفيلم السويدي “القرنفلة السوداء” (The Black Pimpernel)، من إخرج أولف هولتبرغ ( Ulf Hultberg) الذي استلهمه من حياة هارالد إديلستام (Harald Edelstam) سفير السويد في تشيلي، الذي استطاع أن ينقذ أكثر من ألف شخص من قمع رجال بينوشيه.
ومنها أيضاً فيلم “المفقودون” (Missing) الحائز على جائزة الأوسكار للعام 1982 والذي أخرجه صانع الأفلام اليوناني كوستا غافراس (Costa-Gavras)، وهو مستلهم من قصص الصحافيّيْن الأمريكيّيْن تشارلز هورمان (Charles Horman) وفرانك تيروغي (Frank Teruggi) اللذَين أُعْدِما في الملعب.
ومن الأفلام التي أنتجت أيضاً فيلم “الملعب الوطنيّ” (Estadio Nacional)، وهو فيلم وثائقي تشيلي من إخراج كارمن لوز بارو (Carmen Luz Parot)، وقد جمعت فيه شهادات 30 شخصاً عايشوا أحداث الملعب.
في حين يحكي الفيلم الوثائقي من إنتاج نتفليكس العام 2019 “ريماسترد: مجزرة في الملعب (Remastered: Massacre at the Stadium)”، الذي أخرجه بينت-يورجن بيرلموت (Bent-Jorgen Perlmutt)، قصة فيكتور جارا والمسار العسير والطويل لتحقيق شيء من العدالة له.
كان فيكتور جارا مخرجاً مسرحيّاً وشاعراً ومطرب أغاني الحب والاحتجاج. وقد اختيرت أغنيته “سننتصر” (Venceremos) لتكون أغنية الحملة الانتخابية لتحالف الوحدة الشعبية في العام 1970. فصار اسم “جارا” مرتبطاً في الوعي الشعبي بالرئيس اليساري سالفادور أليندي وحكومته.
وفي اليوم التالي لانقلاب الجنرال بينوشيه، اعتُقل جارا ومعه مئات المدرّسين والطلاب في الجامعة التقنيّة في سانتياغو، وأُخِذُوا إلى ملعب تشيلي الذي صار مركزاً لاعتقال اليساريّين وأعضاء الاتّحادات العمالية ونشطاء المجتمع المدنيّ.
عُومل المعتقلون معاملة شنيعة، بحسب الشهود، الذين تحدثوا عن مشاهد الضرب والاعتداءات الجنسية ومشهد مقتل إحدى الصبيان رمياً بالرصاص.. أما فيكتور جارا فتعرّض بدوره لمعاملة أشد سوءاً من غيره، لكن في الأوقات بين جلسات تعذيبه كتب آخر قصائده بعنوان “ملعب تشيلي”:
“كم يصعب الغناء
حين أغنيه للرعب
الرعب الذي أعيشه
الرعب الذي يقتلني
الصمت والصراخ
هما نهاية أغنيتي”
بعد ذلك كُسِرَت يد جارا، ثم ضُرِب حتى الموت وأُثخِنت جثته بالرصاص ورميت في مقبرة سانتياغو الرئيسية، التي شاهد فيها أحد الشهود قرابة 20 أو 30 جثة بما فيها جثة جارا. لاحقاً أظهر تشريح جُثّته وجود 56 كسراً و44 ثقباً بالرصاص، في وقت لم يتجاوز فيه جارا الأربعين من عمره.
ويقدر عدد الذين قتلتهم حكومة بينوشيه العسكرية ما بين العامين 1973 و1990 بـثلاثة آلاف شخص (تشير تقديرات أخرى إلى أن عددهم أكبر ويصل إلى 40 ألف شخص)، إلى جانب تعذيبها 27 ألف شخص على الأقل، واعتقالها قرابة 250 ألفاً لأسباب سياسية.
وإضافة إلى وقائع مقتل جارا، يغطّي فيلم “ريماسترد: مجزرة في الملعب” النضال الطويل الذي خاضته أرملته خوان، ومعها جويس، أرملة الصحافي الأمريكي تشارلز هورمان، لمحاسبة مرتكِبي تلك الجرائم. وفي العام 2012، أدانت محكمة في تشيلي ضابطاً متقاعداً من الجيش اسمه بيدرو بارينتوس (Pedro Barrientos) بجريمة قتل جارا. لكن بارينتوس كان قد هرب إلى الولايات المتحدة حيث تزوّج من امرأة أمريكية وحصل على الجنسية الأمريكية. وفي العام 2016، قَضَتْ محكمة مدنيّة في أمريكا بمسؤولية بيدرو بارينتوس عن جريمة القتل، لكنه لم يُسَلَّم إلى تشيلي. أخيراً في العام 2023، بعد إنتاج الفيلم، سُحبت من بارينتوس الجنسيّة الأمريكيّة وأعيد إلى تشيلي، حيث ما يزال اليوم في الحبس الاحتياطيّ في مركز كتيبة بينيالولن للشرطة العسكرية. وقد تُوُفّيت أرملة جارا قبل أسبوعين من تسليم بارينتوس إلى تشيلي عن عمر 96 عاماً.
بخلاف جارا، لم تتحقق العدالة لتشارلز هورمان الذي أعدم ودُفنت جثته تحت جدار في الملعب. ويشير فيلم “المفقودون” (Missing)، المُقتَبس من كتاب توماس هاوسر (Thomas Hauser) المنشور في العام 1978 بعنوان “إعدام تشارلز هورمان: تضحية أمريكية” (The Execution of Charles Horman: An American Sacrifice)، إلى أن سبب اعتقال هورمان وقتله هو كشفه أدلّة على تورّط أمريكي في الانقلاب. وقد أكّدت وثائق رُفعت عنها السرّيّة في العام 1999 تورّط أمريكا بالفعل بالقضية. ويذكر تقرير كتبه ثلاثة موظفين في وزارة الخارجية الأمريكية عن قضية هورمان أنّ “المسؤولين الأمريكيين لم يفعلوا أي شيء لإحباط النتيجة الطبيعية لجنون العظمة الذي أصاب حكومة تشيلي”. أي إن الولايات المتحدة، بعبارة أخرى، لم تفعل شيئاً لمنع قتل هورمان. وفي 2011، أدانت محكمة في تشيلي راي إي ديفيس (Ray E Davis)، الذي كان قائد المجموعة العسكرية الأمريكية في تشيلي في العام 1973، وطالبت بتسليمه. لكن لم يُعثر على ديفيس إلى حين وفاته في العام 2013 في تشيلي حيث كان يعيش في الخفاء. ثمّ في العام 2015، أدين رجلان بجريمة قتل هورمان وتيروغي، هما الجنرال السابق بيدرو إسبينوزا (Pedro Espinoza) وعميل المخابرات السابق رافايل فيردوغو (Rafael Verdugo).
يُعدّ هورمان وتيروغي وجارا أشهر من قتل في الملعب. فيما بقيت أسماء معظم الضحايا غير معروفة ولم تتحقّق العدالة في قضاياهم.
أما بينوشيه فقد اعتُقل في لندن في 16 تشرين الأول/أكتوبر العام 1998 بعد أن أصدر قاضٍ إسبانيّ مذكرة اعتقال بحقّه بتهم “الإبادة الجماعية والإرهاب المشتمل على القتل”. وكانت تلك أوّل مرة يُعتقل فيها رئيس دولةٍ سابق وفقاً لمبدأ الولاية القضائية الشاملة. ومع أن مجلس اللوردات البريطاني صوت بتسليم بينوشيه ليُقاضى في إسبانيا، إلا أن وزير الخارجية جاك سترو تدخل في القضية وأمر بإطلاق سراحه في آذار/مارس العام 2000. مات بينوشيه في سانتياغو في كانون الأول/ديسمبر العام 2006 من غير أن يُدان بأي جريمة.
تنوّعت استعمالات ملعب تشيلي بعد أحداث العام 1973 الدامية. ففي العام 1991 أقيم فيه مهرجان “غناء حرّ: أيام التطهير”. وفي طقس احتفاليّ، نظّف المشاركون كامل الملعب رمزاً لغسل الدماء التي أريقت فيه سابقاً. لكن بعد ذلك بقي الملعب من دون إعادة تأهيل، وتحوّل لفترة طويلة مأوًى للمشرّدين، ثم اعتُمِد مركزاً لاستقبال المهاجرين.
وفي العام 2003، غُيِّر اسمه ليصبح “ملعب فيكتور جارا”. وفي العامين 2018 و2019 أقيم فيه مهرجان الفنّ والذاكرة المستلهم من إرث جارا، وتضمّن حفلات غنائيّة ومسرحيّات وأفلاماً ومعرضاً للذاكرة وحقوق الإنسان[3].
جنود تابعون للجنرال أوغستو بنوشيه في ملعب تشيلي بعد الانقلاب على حكومة سالفادور أليندي عام 1973 (AP)
بُني هذا الملعب في العام 1993 وافتُتح رسمياً في أيلول/سبتمبر 1994، تحت اسم ملعب كامانيولا، وهو أكبر ملعب في جمهورية الكونغو الديمقراطية ورابع أكبر ملعب في إفريقيا.
لكن لهذا الملعب تاريخاً مؤلماً. فقد بُني في المكان الذي أُعدم فيه أربعة وزراء – إفاريست كيمبا وجيروم أناني وإمانويل بامبا وألكساندر ماهامبا – بحضور 100 ألف شخص، وبأمرٍ من الرئيس موبوتو سيسه سيكو في يوم عيد العنصرة المسيحي في حزيران/يونيو 1966.
فوق الموقع الذي شُنِق فيه أربعة وزراء، هم إفاريست كيمبا (Évariste Kimba) وجيروم أناني (Jérôme Anany) وإمانويل بامبا (Emmanuel Bamba) وألكسندر ماهامبا (Alexandre Mahamba)، بحضور 000 100 شخص بأمر من الرئيس موبوتو سيسه سيكو (Mobutu Sese Seko) في يوم عيد العنصرة المسيحيّ في حزيران/يونيو العام 1966.
وفي العام 1997 أطاح قائد التمرّد لوران ديزيري كابيلا (Laurent-Désiré Kabila) بالرئيس موبوتو، وغيّر اسم الملعب إلى “ملعب الشهداء” تكريماً للوزراء الذين أعدموا، وأدّى رسميّاً قسم الرئاسة في الملعب.
لكنّ سرعان ما تبدّدت الآمال بأن كابيلا سيحترم حقوق الإنسان أكثر من سلفه. فقد كشف تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، صدر في تشرين الأول/أكتوبر العام 1997، أن حكومة كابيلا ارتكبت مجزرة بحق اللاجئين[4]. بعدها قدّمت منظمة “صحافيّون في خطر” – وهي مؤسسة غير حكومية تابعة لمنظمة صحفيون بلا حدود – أدلة على استعمال كابيلا ملعب الشهداء كمركزٍ اعتقال سَجَن فيه مسؤولين ومناصرين للنظام السابق. وهو ما أكّدته أيضاً شبكة “آيفكس IFEX” العالميّة التي تُعنى بحرّية التعبير.
لكن الملعب شهد أياماً أفضل بعد ذلك. وأقيمت فيه حفلات وأحداث رياضية وثقافية، منها زيارة البابا فرانسيس في شباط/فبراير 2023، والألعاب الفرانكفونية العام 2023.
في 28 أيلول/سبتمبر من العام 2009، نظّمت المعارضة في غينيا مظاهرة في أحد ملاعب العاصمة كوناكري. والأرجح أنهم اختاروا الملعب، للأسباب نفسها التي جعلت بينوشيه وفرانكو يختاران الملاعب لجعلها مراكز اعتقال، أي لأن مساحتها وبنيتها تسمحان بحشد عدد كبير من الناس.
كانت المظاهرة احتجاجاً على موسى داديس كامارا (Moussa Dadis Camara) قائد النظام العسكري الحاكم في البلاد، والذي استولى على الحكم بعد انقلاب نُفِّذ في العام السابق. وكان كامارا قد أخلف بوعده بالتنحّي.
ما إن بدأت المظاهرات، حتّى اقتحم المئات من الجنود الموالين لكامارا الملعب وأطلقوا النار على الناس المجتمعين فيه، وراحوا يضربون ويطعنون ويعتدون جنسيّاً على ضحاياهم. وسرعان ما حوّلوا الملعب سجناً، إذ أغلقوا المخارج وكهربوا جزءاً من السور، ما أدى إلى مقتل مئات الأشخاص وإصابة آخرين.
إثر ذلك، عمدت الأجهزة الأمنية إلى التعتيم على المجزرة، فعزلت الملعب ومشارح المستشفيات، ونقلت الجثث إلى مقابر جماعية. وعندما انتشر الجنود في الأحياء التي عاش فيها الضحايا، راحوا يعتقلون وينكّلون بالمئات من الناس. ثم اختلق النظام العسكري روايته الخاصّة عما حدث زاعماً أنّ جنوداً متمرّدين ارتكبوا المجزرة وأنّ عدد الوفيات هو 57 شخصاً فقط، وأنّ معظمهم مات بسبب التدافع الجماعي.
لكن “هيومن رايتس ووتش” ولجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة دحضتا تلك المزاعم. إذ توصلت الأولى إلى أنّ “الجرائم ارتُكبت عن سابق تصوّر وتصميم”[5]، في حين وجد تقرير الأمم المتحدة أن القتل كان “منهجيّاً” وذكر أن “هناك قرائن قوية على أن جرائم ضدّ الإنسانية قد ارتُكبت”. وقد استطاع التحقيق أن يؤكد ويكشف أسماء 156 شخصاً قُتلوا أو اختفوا و109 على الأقل من النساء والفتيات تعرضن للاغتصاب والعنف الجنسيّ، فضلاً عن مئات حالات التعذيب أو المعاملة القاسية أو غير الإنسانيّة أو المذلة[6].
بعد ثلاثة عشر عاماً من المجزرة، في 28 أيلول/سبتمبر العام 2022، بدأت محاكمة 11 متّهماً بينهم موسى داديس كامارا. واعتبَرت “هيومن رايتس ووتش” أنّ ذلك “مثال نادر على محاسبةٍ محليّة لمتّهمين مشتبَه بهم من أصحاب المراكز الرفيعة”[7].
استندت المحاكمة على تجمّع من الضحايا وأقاربهم- يُعرف اختصاره باللغة الفرنسية بـ (أفيبا AVIPA)- والذي قام بالتمهيد والتحضير الضروري للمحاكمة، بعد جمع شهادات الشهود وأدلة مستقاة من مشاهد وثقتها عدسات مئات الهواتف الجوالة للعنف الذي ارتكب في الملعب ومحيطه.
وفي مقابلة مع مجلة موقع “بان أفريكان فيجينز” (Pan African Visions) أعربت أسماو ديالو التي قُتِل ابنها في الملعب، وهي من مؤسّسي “أفيبا”، عن آمالها من المحاكمة: “الألم ما يزال مريراً. لكن عندما أرى العدالة تتحقق فذلك قد يخفف عنّي. سيتابع كل الناس ويعلمون ما حدث في ذلك اليوم. ستستطيع غينيا أن تتنفس من جديد”[8].
انتهى حكم موسى داديس كامارا، لكن آخرين مرتبطين بنظامه العسكري ما زالوا أصحاب نفوذ في غينيا. ولا تزال المحاكمات المرتبطة بتلك المجزرة مستمرة حتى تاريخ كتابة هذا التقرير.
بُني ملعب اليرموك في مدينة غزة بفلسطين العام 1952 عندما كان قطاع غزّة خاضعاً للإدارة المصرية. وفي مقابلة تعود للعام 2022، تحدث لاعب كرة القدم المتقاعد إسماعيل المصري عن أهمية الملعب في المجتمع المحلي: “نَمَت كرة القدم في فلسطين هنا. لم يكن عندنا شيء آخر. لذلك يحبها الناس كثيراً”[9].
استقبل ملعب اليرموك، الذي يتّسع لـ 10 آلاف مشاهد، أحداثاً الرياضيّة ومهرجانات ثقافيّة وحفلات زواج جماعيّة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر العام 2012 دمّره القصف الإسرائيليّ جزئيّاً، لكن أعيد بناؤه بسرعة.
لكن بعد الحرب على غزة التي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر العام 2023، نشرت وسائل الإعلام صوراً تُظهر اعتماد الملعب مركزاً للاعتقال الجماعيّ. وقد نشر شخصٌ إسرائيلي اسمه يوسي غامزو ليتوفا- الذي يبدو أنه جندي في الجيش الإسرائيلي- عدة فيديوهات عبر يوتيوب تُظهر إهانة المعتقلين الفلسطينيين، وسرعان ما انتشرت هذه الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
بدورها، تمكنت شبكة “سي.إن.إن” (CNN) الأمريكية من تحديد مكان تصوير أحد الفيديوهات الذي نشر في 24 كانون الأول/ديسمبر 2023 على أنّه في ملعب اليرموك[10]. يظهر في الفيديو عشرات الرجال والفتيان الفلسطينيين واقفين وراكعين في صفوف- بينهم مسنّون وطفلان على الأقل بعمر العاشرة- بملابسهم الداخلية فقط وأيديهم مقيّدة خلف ظهورهم، وبعضهم معصوب العينين. كما تظهر فيه نساء معصوبات الأعيُن وأيديهن مربوطة خلف ظهورهن، لكن بكامل ملابسهنّ، فيما الجنود الإسرائيليّون يوجّهون الأسرى، وحولهم آلياتهم العسكرية. وقد عُلّق علم إسرائيل على قائم المرمى.
وقال “المرصد الأورومتوسطيّ لحقوق الإنسان” إن المعتقلين في الملعب هم بعضٌ من مئات اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، مقدراً عددهم بثلاثة آلاف شخص[11].
في سوريا، لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أول من حول ملعباً إلى سجن، فعندما بدأت المظاهرات ضد النظام السوري في آذار/مارس 2011، كان الرد قمعياً عنيفاً. اعتدت الأجهزة الأمنية على المتظاهرين وشنت حملات اعتقال واسعة في الأحياء التي انطلقت فيها. وكان ضمن المعتقلين أطفال ومسنون وأشخاص لم يشاركوا في المظاهرات حتى. اعتُقِل عددٌ كبير جداً من الناس في مدنٍ سورية مختلفة لدرجة أن سجون النظام الكثيرة لم تتسع لهم. لذلك احتُجز المعتقلون في أبنية عامة منها المدارس والملاعب، وفي كثير من الأحيان ترافق الاعتقال مع التعذيب.
ضمن هذا السياق، تصف شاهدة – كانت تعيش حينها في بناءٍ مجاورٍ للملعب البلدي في مدينة بانياس الساحلية – ما رأت وسمعت ضمن إحدى حملات الاعتقال التي جرت في مدينتها:[12]
“لاحقوا الرجال والشباب الذين شاركوا في المظاهرات، ومعظمهم يعيش في جنوب بانياس. رأيت الباصات ممتلئة بالجنود والمعتقلين. لم يكن هناك مدنيون في أرضية الملعب، لكن الجنود انتشروا في مساحته المفتوحة، في حين حُبس المعتقلون في أماكن غير مكشوفة. حمّلوا منطقتنا المسؤولية ومنعوا الساكنين بجوار الملعب من الخروج إلى شرفات منازلهم، لكن في الليل كنت أسمع أصواتاً وصراخاً بسبب التعذيب… لم يتمكن الناس من مغادرة منازلهم بسبب حظر التجوال وقطع وسائل الاتصال والكهرباء”.
وسجّلت منظمة العفو الدولية شهادة طالب عمره 25 عاماً اعتقل مع أبيه البالغ من العمر 73 عاماً من منزلهما في بانياس في 8 أيار/مايو 2011. أُخذ الأب والابن مع مئات الرجال في الباصات إلى ملعب بانياس. عندما وصلوا قُيّدت أيديهم بقيود بلاستيكية أمام صدورهم أو خلف ظهورهم. بعدها عصبت عينا الشاهد وأجبر مع رجال آخرين على الجثو على ركبتيه في موقف سيارات تابع للملعب.
يروي الشاهد كيف تعرض للضرب في الباص الذي نقلهم للمعلب، متحدثاً عن عمليات التعذيب التي تعرضوا لها بعد احتجازهم فيه، مثل اللَّكْم والرفس والضرب بالعصي والهراوات، والحرمان من الماء ومن الذهاب للحمام. بعد عدة ساعات، أخذوا إلى مهجع الرياضيين الذي يتكون من رواق وثلاث غرف كبيرة، حيث تم حشر العشرات في كل غرفة. يقول الشاب مستذكراً تلك اللحظات: “بعد أن جلست على ركبتيّ، التصق جسدي بالمحتجزين الذين بجانبي.” ويضيف بأن الضرب والإذلال استمر حتى الليل.
في صباح اليوم التالي، أُطلق سراح الكثير من المعتقلين، لكن لا يزال مصير بعضهم مجهولاً حتى اليوم، بحسب الشاهد. مضيفاً حول إخلاء سبيلهم: “مررنا على ممثلين لعدة أجهزة أمنية وأعطيناهم أسماءنا، وإذا لم يكن الاسم في قوائمهم سمحوا لنا بالذهاب”[13].
وقد جمع كتاب نُشر في لبنان في العام 2012 شهادات عن القمع الذي حدث.[14] يتحدث فيه أحد الشهود عن اعتقاله في حي القوز وجرّه على الأرض إلى الملعب البلدي ثم رميه في ساحة كانت وكأنها “أرضية من الأجسام البشرية”. أمضى عناصر الأمن والمسلحون الموالون غير النظاميين، فترة الظهيرة يقفزون على أجساد المعتقلين، وترافق ذلك العنف مع إهانات وعبارات طائفية، وفق قوله.
بعد غروب الشمس، أُدخِل المعتقلون إلى الملعب وحُشروا في الممرات والغرف. قضى الشاهد أربعة أيام مع قرابة 800 شخص في غرفة تتسع لـ 100 شخص. من وقت لآخر كان عناصر الأمن يدخلون فجأة إلى الغرفة ليضربوا ويسبّوا المعتقلين. وقد تبول أحدهم على كومة من الأجسام، واستخدم آخر ولاعته لحرق شعر صبي، وخلعوا ملابس رجل أمام الآخرين ودفعوا عصاً في شرجه ثم في فمه، وأطلقوا الرصاص على الجدران فطارت الشظايا إلى أجساد المعتقلين. وقد استهدفوا الرجال الملتحين – المتّهمين بكونهم “إسلاميين” – أكثر من غيرهم، ونتفوا لحاهم بالكماشات. يقول الشاهد إنه سمع صراخاً من شخصين – من الرجل الذي تُنتف لحيته ومن الرجل الذي ينتفها وهو يصرخ: “بدّك حرية؟ هي حريتك!”. وعندما قال أحد المعتقلين لعناصر الأمن إنه كان مُعلّمهم في المدرسة، اقتلعوا أحد أسنانه بالكماشة، وفق رواية الشاهد.
وكذلك، عندما سيطر “داعش” على الرقة في سوريا، حوّل الملعب البلدي في المدينة إلى سجن كما فعل النظام السوري في بانياس، وكما فعل فرانكو وبينوشيه، وأخضع المعتقلين لظروف قاسية، واستخدم أساليب تعذيب وحشية، مستفيداً من الظروف الإنشائية للملعب لعزل عدد كبير من السجناء، وإخفاء الانتهاكات التي حدثت فيه.