عشتُ في بيت واحد مع زوجي وزوجاته الأخريات، وكانت أسرتي معروفة في المنطقة لعملنا في تربية وتجارة الدواجن. كنّا عائلة متفاهمة ومتكاتفة، كل زوجة استقرت في غرفة منفصلة، لكننا عشنا وأكلنا سوياً، وما نزال كذلك حتى الآن.
قبل دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مدينتنا، الكشكيّة، كنّا قد زوّجنا أبناء زوجي محمد وحمدان، رحمهما الله، وبعدما كَبُر ابني بَدعي زوّجناه أيضاً، وبعده شقيقه بشير.
بدأ عناصر داعش بمضايقة الشبان إذا ما دخّنوا السجائر أو ركبوا دراجات نارية، ثم اعتقلوا شاباً بريئاً وأعدموه، وكان صديقاً لابني. كما اعتقلوا شخصاً آخر من منطقة القهاوي في المدينة، وعذبوه فقط لأنه كان يُدخّن. نحن النساء أيضاً لم نسلم منهم، ضايقونا بينما كنا نقطف خُضارنا، وتدخلوا في لباسنا. أما زوجي الذي يملك محلاً على الشارع العام في منطقة القهاوي، فلم يعد يتجرأ على الذهاب إلى عمله.
كل تلك الممارسات أفقدت الناس طاقتهم على الاحتمال، فانقلبوا ضد التنظيم وحكمه القاسي، وبادر شبّان عشيرة الشعيطات إلى التصدّي لهم. كردٍ على ذلك قتل التنظيم 26 شخصاً، بعد اعتقالهم وسوقهم نحو حقل العمر النفطي، وكان بينهم بدعي وبشير وأخوهما محمد، الذين استعدنا جثامينهم بعد خروج التنظيم من المنطقة. لقد كانوا أبرياء ومدنيين لم يحاربوا التنظيم، قتلوا قبل أن تحدث أي مواجهات مع الشعيطات، وكانوا بُسطاء منشغلين بعملهم وحياتهم اليومية. ذنبهم الوحيد أنهم أبناء الشعيطات.
خلال اعتقالهم، وقبل قتلهم، توسط لهم أخي عند أحد أقاربنا الذي انتسب إلى التنظيم كي يشربوا الماء، لكنهم ماتوا دون ذلك. أخذني لأراهم بعدما تم إعدامهم، وكان يقول لي: “هذا ابنك”، وأنا رفضت أن أصدق. بعدها حاولت أن أرفعه وأحتضنه لكني لم أستطع ذلك، كان ابني الصغير أيضاً بينهم. أما محمد فلا أستطيع أن أصف مظهره، كان وجهه يشع نوراً لحظة موته لأنه مات مظلوماً، كان وجهه مُضيئاً مثل مصباح. لم يتجاوز عُمر ابني بشير في ذلك الوقت 16 أو 17 عاماً. ما الظلم الذي ارتكبه واستوجب قتله؟ دفَنهم في ذلك الوقت شخص من قرية جَمّة بلدة درنج ليلاً، ثم غادر منزله خوفاً من ملاحقته وإعدامه.
اتصلت بزوجي وقلت له إني حوصرت ولا أستطيع العودة إلى المدينة. أخبرته أننا لن نرى أولادنا بعد الآن، وكان يلطم حزناً عليهم رافضاً الخروج من الكشكية. في تلك المدة كانت الحرب قد اندلعت بين التنظيم والشعيطات.
كنت حينها في بلدة ذيبان قرب الميادين، ولم أكن أستطيع الرجوع إلى عائلتي وزوجي، الذين وصلوا منطقة هجين. بعد 22 يوماً جاء إليّ شخص وأخبرني أن بناتي وزوجات ابنيّ الشهيدَين يريدون أن أعود إليهم. لا أستطيع أن أصف لك لحظة لقائي بهم. كان زوجي يصرخ ويسألني لماذا لم آتِ ببشير معي فأقول له “بشير مات”.
عشنا بعد ذلك أوقاتاً صعبة ومليئة بالخوف، كنا نخاف الدوريات والمداهمات التي تستهدف حتى النساء من أجل نقابهن ولباسهن. لم نعد نحتمل الوضع بعد 12 يوماً في هجين، وتوجهنا نحو الحسكة وأقمنا في قرية الحدادية، في بيوتٍ طينية، وكنا نشرب أحياناً ماء الآبار المالحة. بقينا على هذا الحال أربعة أشهر لحين بدء المفاوضات مع التنظيم. وحين عدنا إلى الكشكية بعد تقديم البنادق التي طلبوها لقاء ذلك، وجدنا الجثث منتشرة في الشوارع والبيوت محروقة ومنهوبة والحيوانات نافقة داخل المنازل، لم نستطع دخول بيوتنا بسبب رائحتها السيئة. حتى محلنا في منطقة القهاوي ظل مُغلقاً ولم نتجرأ على فتحه.
نتيجة كل هذا الخوف قرر حمدان، ابن زوجي، رحمه الله الهرب مع عائلته، وذهبوا إلى مدينة الشدادي في محافظة الحسكة. هناك عمل كمزارع، وهذا لم ينجِّه، إذ اعتقل لمدة أربعة أشهر وأعدم في كانون الثاني/يناير العام 2015. ولاحقاً أعطانا التنظيم ورقة كُتب عليها أنّ الشاب قُتل، لكننا لم نستلم جثمانه أو نجده.
لم نستطع إقامة مراسم العزاء لأي من أبنائنا. وبعد ستِّ سنوات من حادثة إعدام بدعي وبشير ومحمد في آب/أغسطس 2014، دفنا ما تبقى من عظامهم بمساعدة جمعيّة شهداء الشعيطات (رابطة ضحايا الشعيطات)، تعرفنا عليهم من ثيابهم. أما حمدان فلم نجد جثّته حتى الآن.
استمرت مضايقات التنظيم لنا، فلم نكن نعرف مثلاً في أيّ وقت ستداهمنا دورياته، كنا نراهم داخل منزلنا من دون سابق إنذار، وذات مرة حاولوا أخذ البقرة التي نمتلكها، كما حوّلوا بيوتنا مقرّات لهم ومنعونا من العمل والحركة، وفرضوا علينا ضرائب. فوق كل ذلك منعوا حركة النساء دون مُحرم، من أين نأتي بمحارمَ ولم يبق لدينا من الذكور سوى الأطفال؟
أكثر ما أذكره عن أبنائي كيف كنّا نتحدث، ونعمل معاً في محلاتنا، عشنا حياةً بسيطة، وقد باتت الآن صعبة بدونهم.